حمل رئيس هيئة الأركان المشتركة، مارتن ديمبسي، العديد من الرسائل المثيرة للقلق للحكومة العراقية في جولته الأخيرة، التي شملت بغداد والمنامة، من بينها ثلاث رسائل مهمة وغاية في الخطورة. الرسالة الأولى حذَّر فيها من إمكانية فض الائتلاف الدولي ضد تنظيم (داعش)، وأكد في الرسالة الثانية أن الضربات الجوية لطائرات قوات الائتلاف ستتقلص، ونوَّه في الرسالة الثالثة إلى عدم رضا واشنطن عن العلاقات القائمة بين بغداد وطهران، وشكَّك في مدى رغبة حكومة حيدر العبادي في التصالح مع المكون السني في المجتمع العراقي، وقدرة وجهوزية الجيش العراقي.
واختيار واشنطن للجنرال ديمبسي كي ينقل الرسائل لبغداد، والطريقة التي نقلها فيها، رسالة قوية بحد ذاتها، مفادها إن ما قاله رئيس هيئة الأركان المشتركة للقوات المسلحة الأمريكية محسوم على المستوى السياسي الأمريكي، وانتقل إلى أجندة التطبيق العملي، أولها إعلان صريح بأن الائتلاف الدولي الذي تقوده واشنطن لن يدعم بفاعلية القوات العراقية في معارك محافظة صلاح الدين، وبالتالي لن يدعمها مستقبلاً في معارك محافظة نينوى، لاسيما معركة مدينة الموصل، ثاني أكبر مدينة عراقية ومعقل تنظيم (داعش).
وجاءت الرسائل على شكِّل إخطار بالتنفيذ، وليس للبحث مع الحكومة العراقية، فالجنرال ديمبسي قال بالفم الملآن يوم الأحد الماضي، اثناء زيارة له إلى حاملة الطائرات الفرنسية "شارل ديغول"، من الخطأ تكثيف الضربات الجوية لـ"الائتلاف الدولي" ضد مواقع تنظيم "القاعدة"، وأنه يجب ربطها مع ثلاثة عوامل، قدرات الجيش العراقي على الأرض، ورغبة الحكومة العراقية في التصالح مع المواطنين السنة، واعادة النظر في تركيبة ومهام مجموعات ما يسمى بـ"الحشد الشعبي"، لجهة تهدئة مخاوف المكون السني من مشاركتها إلى جانب القوات النظامية في المعارك ضد (داعش).
عدم الرضا الأمريكي عن العلاقة بين بغداد وطهران حضر بقوة أيضاً في تصريحات رئيس هيئة الأركان المشتركة، حيث أكد ديمبسي على أن العراقيين يجب "أن يكونوا واعيين للتحدي المتمثل بضرورة إبقاء الائتلاف الدولي موحداً"، في إشارة واضحة إلى أن الائتلاف آخذ بالتصدع، على خلفية الدور الإيراني، أرفقها بتذكير موارب للحكومة العراقية بأن الجيش العراقي لن يكون قادراً على خوض المعركة ضد (داعش) دون دعم القوات الائتلاف الجوية، وإعادة تسليحه وتدريبه، وأن عدم الاستجابة للتحفظات الأمريكية والغربية سيطيل من أمد المعارك، وسيزيد من شراستها وأعبائها على العراقيين.
وتهدف رسائل رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية إلى لفت نظر بغداد إلى أن الولايات المتحدة والغرب لديهم خطوط حمراء، تجاوز الحكومة العراقية لها ستترتب عليه عواقب وخيمة، وهذا مفهوم لو اقتصرت تلك الخطوط على ما صرّح به ديمبسي فقط، فالحرب ضد (داعش) لن تتكلل بالنجاح إلا إذا ترافقت مع خطوات جدية للمصالحة بين المكونات العراقية، وغارات طائرات الائتلاف تلحق خسائر كبيرة في صفوف المدنيين، باعتراف ديمبسي، وبعض جماعات "الحشد الشعبي" ارتكبت جرائم بحق سكان قرى وبلدات سنية حررتها القوات العراقية من سيطرة (داعش)، باعتراف رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، والدور الإيراني في العراق موضع خلاف داخلي عراقي.
لكن عدم الثقة بالسياسات الأمريكية تجاه العراق، والمنطقة عموماً، يدفع إلى قراءة ما خلف سطور تصريحات ديمبسي، فمن السذاجة الاعتقاد بأن الولايات المتحدة استفاقت وتريد تصويب أخطائها، التي ارتكبتها إبان احتلالها للعراق، وأكبرها إرساء نظام محاصصة طائفية- إثنية، وتعريض العراق لبراثن مطامع قوى إقليمية، يتخذ الصراع بينها هيئة حرب طائفية مستترة، توسعت لتشمل العديد من بلدان المنطقة.
وكان يمكن النظر بنوع من الإيجابية إلى تصريحات ديمبسي لو أنها جاءت مدعومة بتوجهات أمريكية على المستوى السياسي، تدعو لتكاتف المجتمع الدولي من أجل تحقيق وتثبيت المصالحة الوطنية بين العراقيين، ووضع تصور لمرحلة ما بعد (داعش)، يمنع ظهور جماعات متطرفة في المستقبل، بمختلف أشكالها ومنابتها، إلا أن التلويح بورقة انفراط عقد "الائتلاف الدولي" يضع العراق والمنطقة أمام خطر حرب طائفية مفتوحة، تعيد للأذهان نظرية (الفوضى الخلاقة)، السيئة الصيت، التي أرادت من خلالها إدارة بوش الابن إغراق المنطقة في حروب وصراعات، تستغلها الولايات المتحدة في مشاريع هيمنتها على شعوب المنطقة ومقدراتها.
(المقالة تعبر عن رأي كاتبها)