التسريبات عن استقالة غالبية أعضاء اللجنة التنفيذية، رئيس اللجنة التنفيذية محمود عباس وتسعة آخرين، ونفي التسريبات من قبل أمين سر اللجنة التنفيذية الجديد، صائب عريقات، بصرف النظر عن صحة التسريبات أو عدمها، تعيد مجدداً إلى ساحة الحوار مهمة تفعيل وتطوير دور مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية، التي كانت واحدة من القضايا الرئيسية التي أجمعت عليها كل القوى والفصائل الفلسطينية في إعلان القاهرة، آذار (مارس) 2005، وبقيت معلَّقة إلى يومنا هذا.
جذر المشكلة التي تعاني منها مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية بات يشكل أكثر من نصف عمرها، فآخر دورات المجلس الوطني التي كانت محل إجماع فلسطيني عقدت في الجزائر عام 1988، الدورة غير العادية التاسعة عشرة، بينما كانت الدورة الوحيدة التي توصف بالرسمية، الدورة الحادية والعشرون، محل تشكيك في قانونية انعقادها، من حيث امتلاكها للنصاب العددي والسياسي ومشروعية القرارات الصادرة عنها.
وخلال ما يقارب ربع قرن من الزمن، منذ انطلاق العملية التفاوضية في أوسلو، جرى التعامل مع منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها من باب "لزوم ما لا يلزم"، بالإبقاء عليها كإطار يجري توظيفه في السياقات التي تستدعيها العملية السياسية والتفاوضية، التي تولى إدارتها فريق رئاسة السلطة منفرداً ومازال الحال على ما هو عليه. وبعد تشكيل السلطة الفلسطينية جرت عملية إزاحة منظمة، وعلى نحو تدريجي، لاستبعاد مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية، وإحلال مؤسسات السلطة الوليدة في مكانها، مما أدى إلى نشوب خلافات حادة بين القوى والفصائل الفلسطينية، وتعميق الصراع الداخلي الفلسطيني.
رغم ذلك؛ بقيت منظمة التحرير الفلسطينية تفرض نفسها كرقم لا غنى عنه في بنية النظام السياسي الفلسطيني، ليس باعتبارها حاجة رمزية اعتبارية فقط، إنما كوعاء تنظيمي للشعب الفلسطيني في الوطن ومناطق اللجوء، وكإطار قيادي يستند إلى برنامج سياسي وكفاحي مجمع عليه فلسطينياً، وعليه كان لها دائماً موقع الصدارة في كل حوارات المصالحة الوطنية الشاملة، بينما كان موقعها يتراجع في الحوارات الثنائية، وهذا طبيعي لأن منظمة التحرير تصبح مجرد رقم في مشاريع المحاصصة الثنائية.
إلا أن ما نتج عن الحوارات الوطنية الشاملة بقي دون المستوى المطلوب، فأول المعالجات الناضجة لأوضاع منظمة التحرير الفلسطينية خرج بها "إعلان القاهرة"، الذي وقعت عليه كل القوى والفصائل الفلسطينية، لكن صيغة المعالجة التي اعتمدها الموقعون، بخصوص منظمة التحرير، جاء مبهماً وحمالاً للأوجه، فالفقرة الخامسة من الإعلان نصت على "تفعيل وتطوير منظمة التحرير الفلسطينية وفق أسس يتم التراضي عليها، بحيث تضم جميع القوى والفصائل الفلسطينية بصفة المنظمة الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، ومن أجل ذلك تم التوافق على تشكيل لجنة تتولى تحديد هذه الأسس وتتشكل اللجنة من رئيس المجلس الوطني وأعضاء اللجنة التنفيذية للمنظمة والأمناء العامين لجميع الفصائل وشخصيات وطنية مستقلة، ويدعو رئيس اللجنة التنفيذية لهذه الاجتماعات..".
ما هو المقصود بالتفعيل والتطوير؟ وعلى أي أساس ستنظم حركة "حماس" وحركة "الجهاد الإسلامي" إلى صفوف المنظمة؟ وما هو الاستحقاق السياسي والبرنامجي لانضمامهما؟ وكيف سيتم العمل بآلية ما سمي بالتراضي.. باعتماد رأي الأغلبية أم بالإجماع؟ وماذا حول آلية عمل اللجنة وصلاحياتها والسقف الزمني لانجازها المهام الملقاة على عاتقها؟
في السياق العملي للحوارات، التي دارت بعد "إعلان القاهرة"، تأكد للجميع تفعيل وتطوير مؤسسات منظمة التحرير، ربطاً بعملية توسيع صفوفها لاستيعاب "حماس" و"الجهاد الإسلامي"، يحتاج إلى إعادة بناء تلك المؤسسات وليس تفعيلها وتطويرها، وتشمل إعادة البناء البنية الهيكلية والبرنامج السياسي، وهي مسألة بالغة الصعوبة، تتطلب تحلي الجميع بروح المسؤولية وإبداء ما يلزم من مرونة، لم تتجل في الحوارات اللاحقة، فبقيت كل المبادرات والاتفاقيات حبراً على ورق.
مناسبة استذكار كل الوقائع السابقة يندرج في سياق ما يمكن توقعه، في حال انعقد دورة جديدة للمجلس الوطني الفلسطيني، لاسيما إذا صحت التسريبات بأن الاستقالات وقعت فعلاً وأن الدورة ستعقد قبل عيد الأضحى، أي بعد شهر فقط، ففي مثل هكذا عجالة لن تكون هناك تحضيرات كافية، وستبرز خشية مشروعة من أن يتحول اجتماع المجلس الوطني إلى محطة جديدة في طاحونة الانقسام، ناهيك عن أن الهدف الرئيس المفترض من وراء انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني هو تجديد عضويته بالانتخاب، في الضفة والقطاع، وحيثما أمكن في تجمعات اللجوء والشتات، ومن ثم إجراء عملية انتخاب للأطر القيادية في منظمة التحرير لتجديد مشروعيتها، وهي مهمة لا يجوز تأجيلها أو انجازها شكلياً، لأن المنظمة تواجه استحقاقات صعبة وداهمة.
(المقالة تعبر عن رأي كاتبها)