رضا… هذه السيدة العظيمة التي تعيش في صعيد مصر، وتحديدا في منزل متواضع بقرية الشرفا شرق النيل بمحافظة المنيا، واجهت ظروفا شديدة القسوة أجبرتها على إعلان التحدي.
إنها سيدة بسيطة على درجة متواضعة من المعرفة بالأحداث السياسية والأزمات الاقتصادية التي تعاني منها البلاد، ولا تملك ترف مناقشة الموضة، آخر صيحات الهواتف المحمولة، أو يشغلها القيل والقال على الشبكات الاجتماعية، ولا تعرف عنوانا لمصفف شعر، ولا تنتظر رسالة من حبيب هجرها، أو لم يرد على اتصالاتها، أو تشعر بالحرج لأن وزنها زائد، أو أنها ملت أكل اللحوم أو الأسماك، أو تتباهى أنها أفضل من فلانة أو علانة. الأمر كله بالنسبة لها محاولة فتح نافذة على الحياة تمكنها من البقاء حية تتنفس، على أقل تقدير، هي ومن تعول، ومحاولة تحسين فرصهم في الحياة إن أمكنها. أدركت هذا بفطرة سيدة مصرية بسيطة يعدها أهل قريتها بـمائة رجل، حتى أنها نالت لقب "أم الصابرين."
تحكي رضا عن حياتها بابتسامة متفائلة ودون أدنى إحساس بالمرارة، أو ادعاء ببطولة، رغم أنها ـ في رأيي ـ أفضل بكثير ممن يصدعون رؤوسنا يوميا بحكايات عن بطولاتهم وكفاحهم في الحياة. توفي زوجها ولم تختم ابنتها الصغرى الشهرين بعد. مرت على هذه الحال حوالي 18 عاما، شهدت خلالها الكثير من الأحداث الصعبة التي واجهتها رضا عبد السلام بشجاعة، أولها تلك الخدعة الدنيئة التي تعرضت لها من أشقاء زوجها، عندما طلبوا منها التوقيع على ورقة لتيسير إنهاء أوراق المعاش الخاصة بزوجها المتوفي. المفاجأة كانت أن الأشقاء خدعوا الأرملة الفقيرة واستولوا على ميراث زوجها، مستغلين جهلها بالقراءة والكتابة. صارت السيدة دون سند لها في الحياة، لم يتبق لها سوى غرفتين في منطقة جبلية نائية مع بناتها في مواجهة القدر. لم تستسلم رضا، وإنما حاولت بكل جهدها العثور على وظيفة تستر بها عائلتها الصغيرة ولم تفلح. ثم كان قرارها الجريء بالعمل على سيارة زوجها المستعملة التي اشتراها قبل وفاته، لكن لم يمهله القدر بالعمل عليها كما كان يتمنى، لرفع مستوى دخل أسرته. كان على رضا أن تعمل أولا لتوفير نفقات العيش لأسرتها، وثانيا لسداد باقي أقساط السيارة. تعلمت رضا القيادة واستخرجت رخصة قيادة، عملها كان نقل العمال من مكان عملهم بالمحاجر إلى منازلهم في قرى المنيا المختلفة. لم تكن ظروف العمل وردية، إنما واجهت رضا العديد من المشاكل، وتعرضت لعدة حوادث طرق.
واصلت رضا الكفاح والعمل دون كلل حتى تمكنت من تحقيق حلمها القديم بتعليم بناتها، وحصلت ابنتها هند على بكالوريوس زراعة، وشيماء الكبرى على بكالوريوس تمريض، أما إيمان وهدير، فقد أوشكتا على إنهاء دراستهما بالمعهد التجاري والثانوي العام على الترتيب. وما زالت رضا وبناتها يعيشون في نفس المنزل في الجبل. ورغم أنها كثيرا ما لجأت للمسئولين لمساعدتها في الانتقال إلى مسكن آخر أفضل وتوفير وظائف لبناتها، إلا أنها لم تلق أية استجابة. وعن أهلها، تقول أنه لا أحد يسأل عنها ولم يعنها أي منهم يوما في مواجهة الحياة وتربية بناتها.
نظرة واحدة للمرآة وبضع لحظات صدق تجعلنا نعيد النظر في انتقاء الصفات المناسبة لوصف الظروف التي نمر بها، ولا أعتقد أن بين تلك الظروف، المشاكل، الصعاب ما يساوي ما مرت به رضا.