الاختلاف في سياق وتفاصيل الصراعات الدائرة في العديد من البلدان العربية، العراق، اليمن، سورية، ليبيا، السودان، لا يلغي وجود قاسم كبير بينها، وبين أي نزاعات أخرى مشابهة، يتمثل في أن الحروب والنزاعات لا تحسم نتائجها في ساحات المعارك، بل بتسويات سياسية في نهاية المطاف، يمكن للموازين والانجازات العسكرية أن يكون لها ثقلها في معادلة الحلول، لكنه ثقل لن يكون حاسماً في نهاية المطاف، أو على الأقل لن يمتلك ما يكفي من حصانة تمنع تآكله مستقبلاً، في حال لم تعالج الأزمات من جذورها.
وفي البلدان العربية المذكورة، مع التأكيد مرة ثانية على الاختلاف في سياق ومجريات وتفاصيل الأزمات التي تعاني منها، لا يمكن تجاهل أن المآل الذي ستنتهي إليه الأزمات سيحدد مستقبل وحدة تلك البلدان وشعوبها، ولذلك يجب أن يأخذ بعين الاعتبار أن تخاض المعارك تحت سقف الحفاظ على وحدة البلاد والشعب، قولاً وعملاً، من خلال الحرص على منع أي تجاوزات، على هامش المعارك، يمكن أن تؤسس لاحقاً لأزمات ربما أشد، ويمكن أن نأخذ على ما سبق باختصار المثالين العراقي والليبي.
غداة المكاسب العسكرية الكبيرة والسريعة، التي استطاعت القوات الأمنية العراقية في معارك الفلوجة ضد تنظيم "داعش"، توقع قائد عمليات تحرير الفلوجة، الفريق الركن عبد الوهاب الساعدي، "ظهور نسخة أكثر تطوراً من تنظيم "داعش"، وحذَّر من أن "العراق ليس لديه حتى الآن مناعة من تنظيم "داعش"، ونوّه الساعدي، في حديث لبرامج "حق الرد" الذي تبثه قناة "السومرية" العراقية، إلى أنه "قد يكون هناك من مع التنظيم أو غرر به، أو حاقد أو ناقم على العملية السياسية أو على طائفة معينة.."، وأضاف قائلا: "إذا كان لدى بعض السياسيين خطة للتقسيم فإن العراقيين ليس لديهم ذلك".
نقاط كثيرة ومهمة أشار إليها الفريق الساعدي، وتستحق التمعن بها كثيراً، يضاف إليها ضرورة الانتباه إلى الآثار السلبية التي تترتب على ارتكاب تجاوزات وانتهاكات بحق المدنيين في الفلوجة وقضائها، حيث اعترف رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، السبت 4 حزيران/يونيو 2016، بأن هناك أخطاء ارتكبت، من قبل عناصر غير منضبطة (من الحشد الشعبي)، خلال الحملة العسكرية، وأمر بملاحقة المتهمين وتقديمهم للعدالة، ويخشى من أن عدم تنفيذ ما أمر به العبادي سينعكس سلباً على تثبيت الأمن والاستقرار في الفلوجة، وعلى معركة تحرير الموصل.
إذا انتقلنا للمثال الليبي نجد أن الخلاصة التي يمكن الخروج بها من نتيجة المعارك الجارية في غرب البلاد وشرقها لا تختلف كثيراً في سياقها العام عن الخلاصة في الحالة العراقية، فرغم التقدم العسكري ضد "داعش" في سرت، الذي حققته القوات المنضوية تحت راية "المجلس الرئاسي" لـ"حكومة التوافق الوطني"، برئاسة فايز السراج، والتقدم الذي حققته في بنغازي قوات "الجيش الوطني"، بقيادة خليفة حفتر، لا يبدو أن ذلك التقدم يوظَّف كما ينبغي في إطار العمل على تسوية شاملة ومتكاملة للأزمة الليبية، فما زالت الخلافات بين "مجلس النواب" و"حكومة التوافق الوطني" على حالها، وتجثم على صدور الليبيين مخاوف الانزلاق نحو معارك داخل معسكرات حلفاء اليوم، سواء في شرق البلاد أو غربها، بما يحرف البوصلة، ويقدم خدمات مجانية لتنظيم "داعش"، ويذكي مشاريع ومخططات التقسيم.
والخلاصة هي، ثمة خطر داهم من أن تتحول الانجازات العسكرية في الكثير من الأحيان إلى محرقة للحلول السياسية، في حال لم تكن هناك رؤية سياسية مبدئية وواضحة، انطلاقاً من الإيمان بمبدأ أن المراهنة على الحلول العسكرية المجردة لا تنتج حلولاً متكاملة وشاملة وقابلة للحياة، بل تبقي جمر الأزمات تحت الرماد. القاعدة نفسها تنطبق أيضاً، في خطها العام، على الأزمة السورية واليمنية والسودانية، وعلى أي أزمات مشابهة.
(المقالة تعبر عن رأي كاتبها)