انطلاقة متعثرة للمباحثات اليمنية في جنيف تحت رعاية الأمم المتحدة، وسط توقعات منخفضة لما يمكن أن تخرج به المباحثات، في ظل وجود العديد من القضايا الخلافية العالقة بين طرفي الأزمة، تجعل من الصعب التعويل على إمكانية التوصل إلى هدنة إنسانية في شهر رمضان، رغم أن الهدنة ليست أكثر من تبريد للأزمة، بينما مازالت أطراف الأزمة بعيدة عن التوافق على أسس مقبولة للتسوية. وفي اليوم الثاني للمباحثات ظهر أنها أقرب ما يكون إلى الفشل.
التوقعات المنخفضة لا تقتصر على مسار التسوية الدبلوماسية للأزمة اليمنية فحسب، فالجهود التي بذلها، ومازال يبذلها المبعوث الدولي الخاص إلى ليبيا، برناردينو ليون، غارقة في وحول متاهة الاعتراضات على الأوراق المتتالية التي قدَّمها، مما يهدد بإجهاض التقدم الحاصل في الحوار، لأن العقلية التي تحكم المتحاورين "إما كل شيء أو لا شيء، علماً بأن ليون كان قد أوضح منذ البداية فلسفته، كممثل للأمم المتحدة، في رعاية الحوار والتي تقوم على "منع فرض جزء من ليبيا من بسط سيطرته على الآخر"، وهي قراءة واقعية لواقع الحال في ليبيا، بفسيفسائها القبلي والجهوي والإثني.
بدوره استبق المبعوث الأممي الخاص إلى سورية، ستيفان دي ميستورا، زيارته التي بدأها إلى دمشق بأنه لا يحمل جديداً معه، حيث ستقتصر مباحثاته مع المسؤولين السوريين، الذين سيلتقي معهم، على تقديم عرض نتائج مشاورات جنيف، التي أجراها في هذه المدينة السويسرية مؤخراً، والاستماع إلى وجهات نظر الحكومة السورية حول المواضيع المطروحة تمهيداً لجولة قادمة من مباحثات جنيف، لا يعرف حتى اللحظة مصيرها، بينما تشتعل غير جبهة على امتداد الأراضي السورية للضغط على المباحثات السياسية، بتغيير موازين القوى العسكرية على الأرض.
بالانتقال إلى العراق؛ لا يبدو أن الحكومة قادرة على رسم استراتيجية وطنية متكاملة ليس لمواجهة تنظيم (داعش) فقط، بل لانجاز مصالحة بين مكونات المجتمع العراقي، كلما تأخرت زاد الشرخ في النسيج المجتمعي، وما يمنع الوصول إليها هو الافتقار إلى إرادة كافية لمغادرة السياسات الضارة والمدمرة، التي مورست منذ الاحتلال الأميركي للعراق، وخضوع النخب السياسية العراقية لتجاذبات إقليمية ودولية، حوَّلت البلاد إلى ساحة مفتوحة ومستباحة لحروب بالوكالة، تهدِّد مستقبل المنطقة برمتها.
لكن من المفارقات المرَّة في الأزمات الأربع أن النخب السياسية، في السلطة والمعارضة، ما زالت تعتقد أنها قادرة على الاستمرار، إلى ما لا نهاية، في الجري وراء معادلات صفرية، إما كل شيء أو لا شيء، دون الاكتراث بالثمن الباهظ، المتمثل بالمزيد من الضحايا وتدمير ما تبقى من مقدرات البلاد. ويغيب عن أجندات العقلية التي تدار بها الأزمات أي تفكير في سؤال اليوم التالي للحرب، بصرف النظر عن الطرف الذي سيكسبها، بافتراض أنه سيكون هناك خاسر ورابح على أنقاض بلد مدَّمر، فالبلدان الثلاثة تحتاج إلى عشرات السنوات حتى تعيد بناء ما دمرته الحرب، لكن الأهم كيف سيتم إعادة اللحمة للنسيج المجتمعي؟
إذا كان التفاؤل في إمكانية حصول تقدم جدي في معالجات الأزمات الأربعة، بدعم من المجتمع الدولي، نوعاً من الترف، فإن الاستسلام للواقع انتحار يحاكي لعبة (روليت)، بانتظار أن تنطلق رصاصة من المسدس القائل في أي لحظة. وعليه فإن أخطر ما تواجهه البلدان الأربعة هو مراوحة أزماتها بالمكان لفترة طويلة قادمة، لا يعود بالإمكان بعدها الإبقاء على وحدة أراضيها وشعوبها، ففي مثل هكذا حروب الكل فيها خاسر.
وبشيء من المصارحة الواقعية في الحالات الأربع، اليمنية والسورية والليبية والعراقية مع مراعاة خصوصية كل منها، لا يمكن إحالة الأزمات إلى عوامل خارجية محض، فانفجار الأزمات كان بفعل تراكمات على امتداد عشرات السنوات، والأخطاء الكبيرة التي حصلت في التعامل مع الأزمات، وبداية تصويب المسار، وإخراج الأزمات من المراوحة بالمكان، يكون بمغادرة أوهام بقاء الحال على ما هو عليه من جانب السلطة، وكذلك بإنضاج موقف المعارضة حيال بنية الدولة، من خلال إدراك الفارق الجوهري بين السلطة الحاكمة كوسيلة أو آلية وبين والدولة ككيان جامع.
(المقالة تعبر عن رأي كاتبها)