وجَّه الناخبون الغواتيماليون في الانتخابات الرئاسية، التي أجرت جولة الإعادة فيها يوم أمس الأحد، صفعة قوية لكل الطبقة السياسية في بلادهم، وصفها المتابعون للشأن الغواتيمالي بأنها ترقى إلى مستوى عقاب جماعي للسياسيين على مختلف انتماءاتهم، بالتصويت لصالح الممثل الكوميدي السابق جيمي موراليس، الذي أصبح الرئيس الجديد للبلاد بنسبة 70% تقريبا، متقدماً على منافسته السيدة الأولى سابقاً، ساندرا توريس، بحوالي ثلاثين نقطة، في انتخابات شهدت إقبالاً كبيراً وغير مسبوق في العمليات الانتخابية السابقة.
تركزت انتقادات خصوم موراليس على انعدام خبرته السياسية، وعلى افتقاره إلى برنامج انتخابي، وطرحه لأفكار غريبة وخيالية، وعدم تمتعه بدعم قاعدة برلمانية حزبية واسعة، لكن يبدو أن تلك الانتقادات لعبت مفعولاً عكسياً في توجهات الناخبين، الذين استطاع مورالس أن يكسب تعاطفهم كونه رجلا بعيدا عن الوسط السياسي، عشية فضيحة فساد سياسي ومالي كبرى، أودت بالرئيس السابق، أوتو بيريس، ونائبه روكسان بالديتي، إلى السجن، بعد تحقيق بشأن احتيال جمركي بعدة ملايين من الدولارات.
ولم يغب الحس الفكاهي لموراليس عن حملته الانتخابية، ففي أحد اللقاءات الصحفية معه، قال إنه كان يحلم منذ كان صغيراً بأن يصبح رئيساً للجمهورية، وعندما باح بحلمه لأمه أجابته بسخرية ممزوجة بالاحتقار للسياسية والسياسيين: "رئيساً؟! أنا لا أحترم اللصوص، لقد ربيت رجالاً شرفاء"، فرد عليها "أريد أن أصبح رئيساً لأنني لست لصاً"، كلمات كان لها وقع كبير لدى جمهور الناخبين، الذين سئموا الفساد السياسي والمالي المستشري في بلادهم، وباتوا لا يعولون على إمكانية خروج إصلاحيين داخل النخب السياسية والحزبية.
ولا ينكر موراليس أنه لا يمتلك أي خبرة سياسية، ولا يعير اهتماماً للانتقادات التي توجه إليه على هذا الصعيد، بل يجعل منها نكتة يسخر فيها من خصومه ومن نفسه، حيث رد على سؤال حول ميوله، يساري أم يميني، وتجربته السياسية بالقول: "وسطي شفاف دخل لعبة مزورة"، ثم أردف بجدية "أنا أعطي الأولوية لمحاربة الفساد وسوء التغذية والأمية وتوفير الأمن للمواطنين.."، وهي القضايا التي تثقل كاهل المواطنين الغواتيماليين، وتبلورت قناعة لديهم بأن من يستطيع أن ينهض بهذا العبء يجب أن يكون رئيساً لم يتلوث بالدخول في الأوساط السياسية الفاسدة، أو على حد تعبير رجل قانون غواتيمالي "موراليس ليس مؤهلاً للرئاسة.. ولكن هذا هو المطلوب: شخصٌ لا يعرف كيف يعمل النظام السياسي الفاسد".
ظرف وخفة دم، وتاريخ بعيد عن السياسة، وتلقائية في التعبير عن أفكاره وآرائه، رغم غربة الكثير منها، صفات لعبت دوراً في كسبه لأصوات غالبية الغواتيماليين، الذين أرادوا أن يوقعوا عقاباً جماعياً بالنخب السياسية، إلا أن ما سبق شيء ونجاح موراليس بقيادة غواتيمالا في المرحلة القادة شيء آخر، في ظل مستقبل سيكون محفوفاً بمصاعب كبيرة، فالفساد السياسي والمالي بضرب جذوره عميقاً في مؤسسات الدولة والجيش والأجهزة الأمنية والمنظومة الحزبية، والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية سيئة للغاية، الأمر الذي يبقي أمام موراليس طريقاً وحيداً للتغيير، بالاعتماد على الدعم الشعبي الواسع الذي حصل عليه في الانتخابات، إذا نجح في ذلك سيقود تغييراً تاريخياً في البلاد، بينما إذا فشل فسيقود البلاد إلى كارثة، على حد أحد علماء الاجتماع في غواتيمالا.
الملاحظ أن الانتقادات لموراليس لم توجه له من النخب السياسية فقط، بل من كفاءات حقوقية وعاملين في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان ومؤسسات المجتمع المدني، فثمة تخوف من أن "جبهة التقارب الوطني"، التي دعمت موراليس في الانتخابات، تضم قادة عسكريين سابقين من ذوي الاتجاهات اليمنية، كانوا يشغلون مناصب رسمية مهمة إبان سنوات الحرب الأهلية، التي ذهب ضحيتها مئات آلاف الغواتيماليين.
كما يخشى مراقبون من أن يستمر أداء موراليس أقرب إلى الهزل في معالجة القضايا المعقدة التي تعترض البلاد، فعلاج المشكلة في قطاع التعليم لا يحل من خلال ربط المعلمين بجهاز تحديد المواقع (جي.بي.إس) للتأكد من حضورهم الفصول الدراسية، وتحسين وضع الأطفال لا يكون بتوزيع هواتف ذكية عليهم، وتطبيق شعار "حكم نظيف" يحتاج إلى برنامج ورؤية يفتقر إليهما موراليس، لكن من حقه أن يأخذ فرصته كي ينفذ ما وعد به، ففي النهاية يجب احترام إرادة الناخبين، الذين فضلوا ممثلاً كوميدياً على رجال السياسة.
