يسيطر تيار الإسلام السياسي على صناعة القرار في تركيا، التي تأسست على عقيدة "أتاتورك" نسبة إلى "كمال أتاتورك" والتي تُعرف بـ"الكمالية"، وعملت خلال عقود طويلة على تحصين الجيش من أي تدخلات عقائدية، بل جعلت منه عنصرا مهما في الحياة السياسية باعتباره الجهة الأكثر قدرة على حماية مبادئ العلمانية التي قامت في البلاد على أنقاض العثمانيين.
ويعكس المشهد الراهن عدم قدرة عدد من المؤسسات داخل الدولة على تحمل تبعات سياسة "النخبة الحاكمة"، ويأتي الجيش في مقدمة هذه المؤسسات، حيث خرجت بعض القطاعات التي تشعر بالاحتقان من تقليم "أظافر الجيش"، وغير راضية بأن تكون شخصية حزب "العدالة والتنمية" الحاكم، أقوى من شخصية المؤسسة العسكرية التي ظلت لعقود متصدرة المشهد العام.
هناك شعور بالقلق الكامن في نفوس جنرالات الجيش، على مصير مؤسستهم التي أصبحت منذ عام 2002 رهينة قرارات حكومة تنتمي إلى تيار "الإسلام السياسي"، والتي سعت منذ هذا التاريخ إلى تقليص نفوذ الجنرالات في كافة المؤسسات، وصل إلى درجة التدخل في اختيار الصف الأول من القيادات العسكرية.
يستمر صراع التيار الإسلامي والجيش في تركيا، بينما تدرك النخبة الحاكمة أن "الكماليين" وأطراف أخرى معارضة تترقب الفرصة للانقضاض على سياسته، وهذا ما يفسر تمسكه بتغيير نظام الحكم من برلماني إلى رئاسي، يملك من خلاله الصلاحيات التي تساعده في تنفيذ مخطط خروج الجيش من المعادلة السياسية، ويحمي تياره السياسي من غضب المؤسسة العسكرية.
بغض النظر عن النتائج التي يمكن أن تسفر عنها الأحداث الجارية، فالأكيد أن تركيا ما بعد 15 يوليو/تموز 2016، لن تكون كتلك التي كانت من قبل، فالمجتمع بات منقسما على نفسه، والأحزاب السياسية لم تعد قادرة على احتواء خلافاتها، حتى الجيش لم يعد موحدا على استراتيجية واحدة، في ظل توجهات بعض الجنرالات من تنامي نفوذ "الإسلام السياسي" في مؤسسات الحكم وصناعة القرار الذي يؤثر على مستقبل الجيش، ورفض البعض الآخر لسياسات الحكومة المتعلقة بالأزمات التي تشهدها المنطقة.
يبدو أن تركيا خلال المرحلة المقبلة سوف تكون منشغلة بترتيب البيت الداخلي، وتجاوز تداعيات الأحداث الجارية التي ستؤثر بشكل كبير على السياسة الخارجية والعلاقات مع دول الجوار، وربما تغيب عن المشهد الإقليمي بما يحمله من أزمات وصراعات ومواجهات مسلحة.
ما يجري في تركيا هو شأن داخلي يخص الشعب التركي، وهو وحده صاحب القرار في تقرير مصيره وتحديد شخصية الحاكم، لكن أخشى ما أخشاه أن تتصدر روح الانتقام المشهد خلال المرحلة القادمة، بينما المطلوب ضبط النفس والبحث عن آليات جديدة لمعالجة السلبيات وتحقيق التوافق بين كافة أطياف المجتمع.
(المقالة تعبر عن رأي كاتبها)