وهذا مايجعل بعض المُصابين بقلّة النظر وضعف الحيلة، يسلكون سلوكاً لايعبّر عن توازنهم أو حتّى درايتهم أو إيمانهم بما يجري، باختصار حقيقة الأوضاع هي صمودٌ أسطوريّ لشعبٍ يُعاني أشدّ أنواع الحصار الذي لا يرتكز على أي مرتكزات قانونية أو شرعية ولا حتى أخلاقية إنسانية، ما خلق حالة من العَوز والنقص، إن كان في الدواء والغذاء وحتّى أبسط كماليات الحياة، ومن هنا يمكن القول نقص في الحياة بكل ماتعنيه الكلمة، ومع ذلك ماتزال الدولة قائمة بكل مؤسساتها التعليمية والصحية والحكومية الرسمية على مختلف توجّهاتها، وما زالت الدولة تقوم بكل مايمكن لتلبية حاجة المواطن، الذي يحقّ له أن يتذمّر من حين للآخر بحُكم طبيعة الإنسان وعدم قدرته على تحمّل كل ما يجري كونه ليس "جان فالجان أو سوبّرمان" أو ما شابه، لكن كما يُقال "الله عرفوه بالعقل" والحديث هنا يطول ويمكن أن تُروى أساطير لا تنتهي عن هذا الشعب الذي يواجه الموت بالحياة رغماً عن كل الظروف القاسية التي عصفت وتعصِف به.
واليوم يتحدّث رئيس الوزراء الروسي ديميتري ميدفيديف، على إحدى القنوات الإسرائيلية ليضحد ما تتناقله بعض القِوى الإقليمية والدولية حول أسباب التواجد الروسي في سورية وأهدافه غير المعلنة، حيث أنّ ميدفيديف أكّد على أن موقف بلاده لا يرجع إلى التهديد المتزايد لزعزعة الاستقرار في الشرق الأوسط فحسب، وإنّما روسيا تدافع عن مصالحها القومية في سورية، وهذا مارأى فيه بعض الخبراء على أنه خطوة لتنسيق مشترك لمواجهة الإرهاب، وآخرون اعتبروه رسالة قوية إلى إسرائيل، تحذر روسيا فيها من مغبة الاستمرار في شحن الجبهة الجنوبية من خلال دعم المجموعات المسلحة المنتشرة في الجولان السوري المحتل والقنيطرة ودرعا، ويتابع ميدفيدف قائلاً عدا عن أنّه جاء بطلبٍ من الحكومة السورية للمساعدة في إعادة الأمن والنظام في البلاد بعد انتشار الإرهاب القادم من كل مكان، كما كان قد حذّر ميدفيديف سابقاً من تفكّك سورية إلى تجمّعات إرهابية، وعلى الضفة الأخرى في طهران رئيس مجلس الشورى الإيراني علي لاريجاني يؤكّد لنائب وزير الخارجية والمغتربين الدكتور فيصل المقداد، استمرار القيادة الإيرانية في دعمها السياسي والاقتصادي والعسكري لسورية حتى دحر الإرهاب بشكلٍ كامل.
أمّا على السّاحة الدولية فيكفي أن الولايات المتحدة التي تقود حلف متهالك على نفسه يدّعي أنّه يُحارب الإرهاب، باتت عاجزة عن تحقيق أيّ تقدّم حتى لحظة تنصيب الرئيس الجديد في 21.01.2017، وإلى ذلك الحين من المرجّح كثيراً أن تُحافِظ روسيا على هدوئها في إطلاق العنَان لزخمِ الميدان بما هو عليه الآن، وهذا جزء من تفسير الموقف الروسي الذي رغم كل ما يجري يُعطي المجال للأمريكي كي يخرج من تحت الماء قبل أن يختنق لعلّه يستفيق ويرى مغبّة ما يمكن أن تؤول إليه الأمور.
إذاً الوزير وليد المعلّم يعي تماماً مدى أهمية التصريح الذي أدلى به بخصوص حلب، وأهمية كل كلمة وحرف تتفوّه بها أي شخصية رسمية سورية، فقد اعتبر المعلم في ردًّ على سؤالِ صحيفة "صنداي تيليغراف" البريطانية حول تبعات محتملة لنجاح الجيش السوري في حلب، أنَّ هذا النجاح سيدفع الدول الغربية إلى إعادة النظر في موقفها "الخاطئ"، قاصداً إصرار الغرب على رحيل الرئيس السوري بشار الأسد.
نعم هذه التصريحات التي أتت على لسان المعلم مدروسة بعناية فائقة وخاصة في مثل هذه الظروف الضاغطة على سورية، وفي ظلّ تصعيدً ميدانيّ سياسيّ وإعلاميّ ضدّ سورية وحلفائها على كل الجبهات، التي تأتي في الوقت الذي يحقّق فيه الجيش العربي السوري نتائج كبيرة في صدّ ودحر التنظيمات الإرهابية المسلحة، وفي ظلّ تأكيدات روسية وإيرانية على أعلى المستويات نحو السير في المواجهة مع الإرهاب وداعميه حتى النهاية، مع إعطاء الفرصة وراء الفرصة لتحقيق أي مُنعطف نحو الحلّ السياسي بما يحترم سيادة وإستقلال الدولة السورية وهذا ماتعزِف عنه حتى اللحظة الولايات المتحدة.
من هنا نرى أنَّ الجبهة الداخلية في أيّ حربٍ كانت حتّى على الصعيد الشخصي تكون هي العمود الفقري لأي نجاحٍ أو إنتصار، لذا نأتي على التصريح الذي جاء على لسان وزير الخارجية والمغتربين السوري وليد المعلم، حول الثقة باستعادة حلب من تحت سيطرة الإرهابيين، فهذه الثقة لم تأتِ من فراغٍ أبداً، ولم تكن مجرّد تصريح لرفع المعنويات عند الشعب والجيش السوريّ وحتّى عند الحلفاء الذين يسيرون بالتوازي على قَدَمٍ وساق مع التوجّه السوري على كافّة الجبهات وخاصّة الحليف الروسي الذي يستغرِب الكثيرون من مواقفه وسياسته المتبّعة في الميدان مؤخّراً وخاصّة موضوع الهُدن وإيقاف تحليق الطيران الروسي حتى اللحظة ولمدة عشرين يوماً، التي تحدثّت عنها حتى المتحدّثة بإسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا، وقالت أنّها أعطت القدرة والمتنفّس للتنظيمات الإرهابية في إعادة انتشارها وتسليحها، ليس لأنّ الخطوة غير مدروسة لا أبداً بل لأنّ الطرف الآخر لم يحترمها ولم يلتزم كعادته.
وهكذا ظهرت عند البعض على أنها خطاً وهذا تحليل خاطئ وغير منطقي، لكن من جهة هذه الانتقادات واقعية وتضعنا أمام أسئلة عدّة، منها: هل من أحد يعرف الأسرار الخفية لهذا الموقف الروسي؟
أمّا عن دول الخليج فهي كالجَمَل التائِه في صحراءٍ مليئة بالكُثبان الرملية المتحركة كيفما اتجهت عمَت عيونها وغارت في الأرض فقرّرت الثبات في مكانها لأجل غير مسمّى ولعلّ معجزة ما تحدث وتخرجها من ما ورّطت نفسها به، وبالانتقال إلى إسرائيل التي كشف مؤخّرا عن وصول دعمها وأسلحتها إلى "المعارضة المعتدلة " في منطقة خان الشيح بريف دمشق نراها فهمت الموقف الروسي وانكمشت إلى حد ما.
وبالتالي وسائل الإعلام الغربية باتت غير قادرة على ممارسة التضليل ومسايرة أصحاب المصالح، وعلى سبيل المثال لا الحصر أكّد موقع "مون أوف ألاباما" الأمريكي أن حملات التضليل الإعلامي التي تقودها بعض الدول الغربية والإقليمية
الصمود الأسطوري للشعب السوري بوجه عام، وفي حلب على وجه الخصوص، في مواجة كل مايجري على الجبهة الشمالية من قتل وتدمير وتقطيع أوصال بهدف إخلاء المدينة من سكانها لتصبح ساحة للضغط على سورية وحلفائها وساحة معركة مستدامة تنتهي بنهاية الدولة كما يعتقدون، أفشل المخطّط، وفي الحقيقة الواقع يقول أنّها ستنتهي بنهاية المشروع الإرهابي الإقليمي الدولي المتّجه إلى الأفون.
إذاً في ظلّ هذه الظروف والمتغيّرات تستطيع سورية بالفعل أن تكون على ثقة تامة من قدرتها على التعاطي مع التطوّرات الحالية وأن تعي تماماً كيف ترسِم نظرياً وتخطّط فعلياً إلى مرحلة ما بعد استعادة حلب.
(المقالة تعبر عن رأي كاتبها)