دمشق — سبوتنيك — فداء شاهين
بدأت الرحلة من دمشق ولم يكن محمد، كما تحدث لـ"سبوتنيك"، يملك المال الكافي قبل أيام من تفكيره في الرحيل إلى الوطن البديل، حيث العمل والإقامة الصعبة، فجمع 10 آلاف دولار من عدة أشخاص ليغادر وهو مديون، على أن يرسل المال عند وصوله واستقراره في ألمانيا. غادر وهو يرقب تضاؤل البيوت إلى أن ازدادت سرعة الحافلة وابتعدت منازل دمشق عن أعينه، شهد باب العبور إلى لبنان تدقيقا كبيرا، فالشخص الذي لا يحمل بطاقة الطائرة أو يوجد كفيل له لا يسمح له بالدخول إلى لبنان، لأنها لا تريد استقبال مزيد من المهجرين كونها تعيش ضائقة مالية، فلم يعد الإنسان في هذه الأزمة يساوي شيئاً، الشيء الوحيد المعترف به هو جواز السفر.
تجاوز محمد ومن سُمح له بالدخول الحدود إلى مطار بيروت، فوجد عددا من أصدقائه الذين وصلوا قبله من سوريا والراغبين في الهجرة. وبعد الانتظار لعدة ساعات غادروا بالطائرة التي أقلعت إلى تركيا وهبطت في مرسين ذات الغالبية السورية، والتي يتردد إليها الزائرون لانخفاض بدل السكن فيها، مقارنة مع اسطنبول، كما أنها قريبة من الحدود السورية، فقرر محمد الإقامة عند أقاربه الذين هاجروا قبله بعد أن قاموا بتأجير منزلهم في دمشق ليعيشوا بالمال في مرسين، فبقي أربعة أشهر وهو يحاول السفر بحراً إلى اليونان. وفي كل مرة كان يتردد إلى مقهى مكان تواجد المهربين، وكان يعج بالزائرين السوريين الراغبين في السفر إلى اليونان "بلد العبور".
وكان على البعض الاستعجال في الانتقال، لأنه في حال لم ينتقل في الموعد الذي حدد له، فعليه أن ينتظر أسبوعاً للذهاب وهذا ما يتطلب تكاليف إضافية. كان المهربون يطلبون دفعة مالية مسبقة، وكان محمد يقابلهم بالرفض لاسيما بعد ازدياد حالات النصب على السوريين، فضلاً عمن يقوم بالدفع مسبقاً يتم تأجيله لاكتمال العدد، بينما الاشتراط على المهرب بدفع المبلغ عند الوصول يعد أكثر نجاحاً، لاسيما أن الشخص الذي يريد الوصول إلى اليونان يقوم بإيداع مبلغ أربعة آلاف دولار كأمانة عند مكتب حوالات ويأخذ المسافر رقم كود "سري" وعند وصوله إلى اليونان يعطي الرقم للمهرب.
تجمّع الناس عند الساعة الثانية ليلاً في أحد الفنادق، فالتسلل تحت جنح الظلام يبعد المسافرين عن كشافات الشرطة التركية. انتقلوا إلى الرصيف البحري وركبوا في قارب صغير سينقلهم إلى القارب الكبير، حلم كل سوري بالإبحار إلى اليونان. إلا أن الحظ لم يحالفهم، ففي كل مرة كانت الشرطة التركية تقبض عليهم قبل وصولهم إلى القارب، علماً أنه من أصل عشر محاولات كانت تنجح واحدة في التسلل إلى اليونان، وبعد أن يتم احتجازهم ليوم واحد في السجن يقوم شخص بالتحدث عن عشرة أشخاص أمام الشرطة التركية ويكتبون بعدها تعهدا خطيا بعدم تكرار محاولة الهروب.
وعندما فشلت محاولات السفر من تركيا إلى اليونان، بدأ محمد بإنفاق المال من الرصيد الذي سيوصله إلى الوطن البديل بسبب تذمر أقاربه من إقامته الطويلة، وبدأ يساهم في شراء المواد الأساسية، وتنبه بعدها إلى فكرة أن يسافر إلى السودان، فغادر جواً إلى الخرطوم وكان بانتظاره المهرب الذي رافقه من المطار على متن الباصات التي سارت من أقصى الجنوب إلى ليبيا ووصلوا إلى منطقة صبراتة التي تقع تحت سيطرة تنظيم "داعش" الإرهابي. وكان سائق الباص يصلي طوال الرحلة لعدم رؤية المسلحين للمسافرين الذين يحملون أوشمة على أيديهم لأن التنظيم الإرهابي سيقطع أطرافهم.
الجميع ينظر بشرود. كانت الرحلة كابوساً، ففي حال وقع المسافرون في أيدي قوات حفتر التي تتبع للحكومة الليبية، سيتم سجنهم ومن ثم إرسالهم إلى بلادهم. أما في حال وقعوا في أيدي تنظيم "داعش" الإرهابي، يتم امتحان كل شخص بسؤاله عن الأحاديث والمعلومات المتشددة، وإذا كان مواظبا على الصلاة. فإذا اكتشف المسلحون أن الشخص من المشركين، "حسب اعتقادهم"، تتم معاقبته بحفر الأنفاق للمجاهدين، علماً أن بلدة صبراتة الليبية تعتبر من البلدات التي تنظم الرحلات إلى إيطاليا مقابل تقاضي المال.
وبقي محمد مدة شهرين في ليبيا بعد أن دفع مبلغا من المال إلى "داعش"، وخرج بعدها عن طريق البحر في قارب مهترئ استيعابه 40 شخصاً، إلا أنه تفاجأ بوجود 200 شخص ولا توجد فيه أي وسيلة حماية وغص بالمسافرين من "الأطفال والنساء"، وكانوا قد أصيبوا بدوار البحر وبقوا على هذه الحالة طوال الرحلة، والبحر هائج يصارع الرياح الشتوية، والجميع على سطح القارب يتعرضون للسعات البرد القارس ورذاذ البحر، والقارب صغير تفوح منه رائحة الزيت المعدني تحت نبضات المحرك المرتفع، والشخص الذي لا يستطيع الوصول عن طريق السواحل سيصبح في عداد المفقودين.
الجدير ذكره أن سوريا فتحت أحضانها لكل الوافدين سواء الفلسطينيين والعراقيين واللبنانيين وغيرهم، وتمت معاملتهم معاملة المواطن السوري وتأمينهم في المدن وتسكينهم بالأبنية والشقق، ولم يطلق عليهم "لاجئون". بينما استقبلت دول الجوار السوريين في المخيمات المليئة بالشوادر وسجنتهم فيها وأطلقت عليهم لاجئين، إضافة إلى أن وزير العمل التركي فاروق تشيليك قد أعلن سابقاً أن تركيا التي تستقبل على أراضيها 1.8 مليون لاجئ سوري لن تمنح تصاريح عمل للاجئين السوريين فيها، معتبراً أن مثل هذا البرنامج سيكون ظالماً للأتراك الذين يبحثون عن وظيفة، في حين أكد أمين عام وزارة العمل الأردنية حمادة أبو نجمة في مناسبة اليوم العالمي للاجئين أن بلاده ترفض منح تصاريح عمل للعمال السوريين الداخلين كلاجئين، بل تمنح الموافقات اللازمة لاستخدام العمال الوافدين في المهن التي لا يقبل عليها الأردنيون، علماً أنه يوجد في الأردن ما يزيد عن مليون و400 ألف سوري.