الوضع في الجانب الأيمن…لا تصفه كل الكلمات ذات طابع البؤس والمعاناة والألم والحرمان…بهذه العبارة ابتدأت فتاة موصلية في العشرينيات من عمرها حديثها لمراسلة "سبوتنيك" في العراق، عن هول المجاعة التي يمر بها المدنيون في الساحل الأيمن للموصل مركز نينوى شمال العراق.
وتقول الفتاة وهي إحدى عضوات فريق نساء الموصل اللاتي يوثقن جرائم وانتهاكات تنظيم "داعش" بحق المدنيين في المدينة، إن العائلات في الساحل الأيمن، اختزلن وجبات الطعام في اليوم إلى وجبة واحدة — هذا إذا توفرت هذه الوجبة الوحيدة، وأسعار المواد الغذائية بدأت بالتصاعد بوتيرة متسارعة جدا ًومخيفة وصلت إلى حد الخروج عن المألوف منذ بدء عمليات تحرير الأيسر (في 17 تشرين الأول/أكتوبر العام الماضي".
تخيلي…سعر لتر النفط الأبيض صار بـ 10 آلاف دينار عراقي (ما يعادل تقريباً 8 دولارات)، والناس جل اعتمادهم على آلة الطبخ البدائية المعروفة شعبياً بالـ"جولة" التي لا تريد الانقراض، وهي تعتمد في اشتعالها على النفط الأبيض.
وآخر تسعيرة وصلتني من أصدقائي ومعارفي المحاصرين في الساحل الأيمن، سعر كيلو البطاطا، وكيلو البصل، وصل إلى 25 ألف دينار عراقي (ما يعادل تقريباً 22 دولار)، وكيلو السكر 10 آلاف…حتى أن بعض الناس ألغوا شرب الشاي من قاموس حياتهم رغم حبهم وتعلقهم بهذه حسب التقاليد العراقية…وبعضهم الآخر استبدل السكر بحبوب السكرين "الخاصة بمرضى السكري"، لتحلية الشاي.
وركزت الفتاة على معاناة الأطفال المرتهنين مع ذويهم من قبل تنظيم "داعش" كدروع بشرية في الساحل الأيمن، مشيرةً إلى أن حليب الرضع منعدم تماما ما شكل مأساة بالإضافة إلى المآسي التي أثقلت كاهل الأهالي الذين بدأوا بجمع الحنطة واستعمالها بشكل يومي كغذاء لهم لأنها أرخص شي موجود وللأسف لم يتسن لي معرفة سعر الكيلو الواحد منها.
موت الأطفال
أثناء تواجدي في مخيم الجدعة، التقيت بامرأة تعلوها ملامح الحزن والألم، ولما دنوت منها لأسألها، تحدثت إلي بصوت حزين وقلب مفجوع، وقالت: فقدت طفلتي ذات الـ11 شهرا…نتيجة نفاذ الحليب.
ونقلت لنا الفتاة عن الأم قصتها، قائلة "خرجت من المنزل في أيمن الموصل، ناوية بالهرب تجاه القوات الأمنية وإذا بـ"الداعشي الهالك" يعترض طريقي — يقول لي…
إلى أين؟؟
الأم: نفذ حليب الرضيعة دعنا نمر فلا دخل لنا بالحرب.
الداعشي: ارجعي من حيث أتيتِ فـأنت لست بأحسن مني أنا فقدت طفلين…ما المانع من أن تموت طفلتك ؟؟!!!!
وتقول الأم: "والله رجعت إلى البيت وما هي إلا ساعات حتى فارقت طفلتي الحياة نتيجة الجوع".
وأكملت الفتاة، الجوع يؤثر على الأطفال ويقتلهم أكثر من الكبار، في منطقة تموز ضمن الساحل الأيمن أيضاً، كل يومين يصلي الناس في الجامع صلاة جنازة على طفل أو طفلين يموتون جوعاً، أما الوفيات في المنطقة القديمة في وسط المدينة…فحدث ولا حرج.
اللجوء إلى الانتحار
وصلتني معلومة من شخص أن أحد أقربائه حدثه، قائلا:
والله وتالله لبشاعة وقسوة ومرارة ما عانيناه من جوع…والجوع كافر كما يقال…قررت أن آخذ عائلتي للمبيت في أحد المضافات المتروكة لتنظيم "داعش"، قررنا بالإجماع أنا والعائلة الانتقال لهذه المضافة الواقعة في حينا ونحن نعلم وعلى يقين تام أنها (مجبسة) أي معرضة في أية لحظة، للقصف من قبل طيران التحالف أو العراقي كونها مقر للتنظيم، كي نموت ونرتاح من هول العذاب الذي لاقيناه…وبالفعل أخذت عائلتي ودخلنا المضافة…وبتنا فيها لكن مشيئة الله قضت أن ننجو ويتحرر الحي في اليوم التالي على يد القوات العراقية.
قبل لا أنسى قصة الشخص الذي اشتهى أن يأكل "بصلة"…تخيلي اشتهى بصلة…إلى أي درجة من الحرمان وصل إليها ليشتهي بصلة ليس إلا!!!!
يقول هذا الشخص، مللت من أكل معجون الطماطم الذي نأكله مع الخبز…ذات يوم هبت رائحة بصل مقلي فاشتهت نفسي البصل…فخرجت باحثا عن مصدر الرائحة ودققت باب المنزل الذي تفوح منه هذه الرائحة دونما اكتراث… فخرج إلي جاري وقلت له جئتك بطلب أرجو أن تلبيني… قال لي: أبشر… قلت له شممت رائحة البصل فاشتهيته… فقال لعيونك غالي والطلب رخيص… فجاء بحبة بصل وأعطاني إياها… فرجعت إلى زوجتي وكأني ملكت الدنيا، وقلت لها فلتقسمي لنا هذه الحبة وتجعليها تكفي لمدة أسبوع كامل!.
واختتمت الفتاة حديثاً، بالتنويه إلى أن الغذاء نفذ كلياً من بعض المناطق مثلا في الرفاعي…فيها الناس يأكلون الخبز الميبس (فتات الخبز)، ومناطق تموز يأكلون الحشائش وحتى الحشائش بدأت بالنفاذ.
وانطلقت حملات عدة على مواقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، و"تويتر" وعلى الويب أيضاً، تطالب بإنقاذ المدنيين من الجوع، ومنها حملة تناقلها العراقيون بعنوان "أنهوا مجاعة الموصل"، مرفقة بصور أطفال قتلهم الجوع وآخرين يتم دفنهم جماعياً إثر الجوع والوحشية التي عاشوها في ظل تنظيم "داعش" الإرهابي الذي استولى على المدينة منذ منتصف عام 2014، وما تبقى من سيطرة له فيها سوى مناطق قليلة في الجانب الأيمن الذي يشهد تقدماً للقوات العراقية.