وتابع: "قبل التحولات الدراماتيكية في سورية والمنطقة كل كلام عن وضعية جيوبولوتيكية للحزب، لا تتعدى إطار الدائرة اللبنانية، ولا تتجاوز مبدأ الإدراك المحدود للمكان في سياق الصراع مع العدو الإسرائيلي، لكن بعدها بدأ الحزب يدرك — كما يقول المؤرخ الفرنسي فرناند بروديل — أنّ "الخرائط هي التي تروي القصة الحقيقية"، وأنّ هناك ضرورة لخلق توازن جغرافي يلبي الحاجة للسلم والاستقرار ويردع العدو من التوّسع والعدوان".
وأضاف "صحيح أنّ الحزب يمتلك رؤية دينية تتعلق بالمكان والتحولات التاريخية ولكن لا يمكن أن يضعها إلا في الإطار النظري طالما هو حزب لبناني محكوم لقواعد الانتظام العام داخل الدولة التي يتحرك فيها، وطالما أنّ وجوده غير مهدد وأرضه غير مستباحة ودولته غير معرضة للانقسام أو الزوال، ولا شيء من موجات التطهير العرقي والديني والتغيير الديمغرافي، في مساحات انتشاره اللبناني، بادية على سطح أية تحولات قادمة، أمّا أن يكون بنفسه داخل ميادين التأثير الجيوسياسي فهذا يتطلب الحضور الفاعل والقوي في ساحات الأزمات وهذا ما لا يمكن أن يحصل إلا في ظل ظروف تشهد فيها الخرائط والمصائر انفجارات كبرى كما هو الحال اليوم.
ومن وجهة نظره "لا شكّ أنّ حزب الله طوّر وعيه بالوجود وشكّل لنفسه إدراكاً مكانياً لساحة سيطرته في الدائرة اللبنانية، ولعناصر قوته التي تنطلق منها ديناميكيته خارج هذه الدائرة لتلتقي بالدوائر الأخرى السورية والعراقية والإيرانية التي تشكّل جميعها الهيكل الاستراتيجي لمحور المقاومة الممتد على أرضية جغرافية واسعة ويتخذ من طهران مركزاً له، وهذا المحور تأسّس كقوة مؤثرة على ساحة التاريخ الحديث في إطار الصراع والتنافس مع محاور إقليمية أخرى مركزها اسطنبول والرياض وتل أبيب أرادت تجسيد سيطرتها وهيمنتها على الأرض بواسطة العنف والعدوان، وعبر تدمير التوازنات الاجتماعية والسكانية القائمة، وإزالة الحدود التاريخية التي ترمز إلى شرعيات الدول وسيادتها التقليدية، في إطار فهم جغرافي ـ سياسي ـ عرقي ـ طائفي جديد لا تعود فيه جغرافية دولة ما ولا التركيبة السكانية داخلها عاملاً ثابتاً وصلباً.
وأكد الكاتب أن "هذا ما ظهر واضحاً منذ تطور الأحداث في سورية حيث اشتركت كل من تركيا والكيان الإسرائيلي في تدعيم سياستهما التوسعية تجاه الدول المجاورة لهما، في عودة مجنونة إلى نظرية فريدريك راتزل مؤسس علم الجغرافيا السياسية الحديث التي يقول فيها: "إنّ الدول تشبه الكائن العضوي الحي وهي على نحو دائم تحتاج إلى التغذية، تماماً كالكائنات الحية، وإنّه لا يمكن تغذية الدول إلا باحتلال أراضٍ جديدة، وأنّ الدول التي تبقى عاجزة عن خوض صراع التغذية ستزول عن الوجود". ثم في محاولة الوصول إلى حالة الاكتفاء والإشباع الترابي في إطار بناء قوة مركزية إقليمية، أو في سياق المنافسات والصراعات الدولية، أو لتحقيق أهداف استراتيجية تلبي طموحات وتطلعات قديمة كانت تركيا و(إسرائيل) تتحينان اللحظة التاريخية المناسبة لجعلها حقيقة ملموسة.
وأردف "لكن لو أجرينا عملية تقييم للنماذج التاريخية والجغرافية منذ ذلك الوقت، لتبيّن معنا أنّ الخلفية الحقيقية لكل مستويات الصراع في المنطقة والعلاقة السببية للأحداث الدامية التي تنامت بشكل سريع، تستوي بالكامل على النزعة الاستعمارية التوسعية الجديدة وتجاوز الحدود القديمة لدول المنطقة وبسط النفوذ عليها ثم محاولة تجميع جغرافياتها كلها ضمن قالب محوري جديد".
وأشار الكاتب إلى أنّ نفي مصطلح "الهلال الشيعي" بخلفيته المذهبية لا يلغي في المقابل انعدام أي مقاربات جيوبولتيكية لهذه الدول. فمع اندلاع الأزمة في سورية ازدادت بين هذه الدول العلاقات الارتباطية وتطورت الإدراكات الجيوسياسية لتلقي بثقلها على العلاقات والتوازنات الإقليمية والدولية. ومما لا ريب فيه أنّ الخيارات السياسية هي التي دفعت بهذه الدول إلى تعزيز مصالحها الجيوبولتيكية من خلال تفاهمات واتفاقات مشتركة تحفظ لكل دولة استقلالها ووحدتها الترابية وخصائصها الثقافية والدينية من جهة، ولمواجهة أطماع المعتدين وتغلغلهم إلى ساحات المنطقة ومحاولة تقسيمها بعملية قسرية دامية من جهة أخرى.
في مواجهة ما يحصل على صعيد المنطقة من تمزّقات وحروب وفتن وتقسيمات تتداخل فيها المعطيات الداخلية والخارجية بنحو شائك، فإنّ من حق "حزب الله" ودول في المنطقة تشكيل تحالفات تُستخدم فيها العوامل والميزات الجيوبوليتكية كأداة تأثير في عملية بناء السلم وتحقيق الاستقرار وبما يحفظ للحزب حضوره وبقاءه وللدول الحليفة له وحدتها وسيادتها واستقلالها.