هنا وأمام أطلال ركام الحرب الطويلة على سوريا، اختار 16 مهندساً ومهندسة من اختصاصات (العمارة والطبوغرافية والمدني) أن يتحولوا إلى مسعفين لأكثر الحجارة في العالم قرباً لقلوبهم: حلب القديمة، ورشات العمل التدريبية الممتدة لأسابيع التي وصلت الليل بالنهار، يتساقط معها التعب أمام هدف واحد: عودة الحجارة إلى سابق عهدها ونبضها.
و(حدد)، هو أحد أبرز (آلهة) سوريا القديمة وبلاد الرافدين، ووفق الأساطير، هو إله العواصف والأمطار يتجول على متن عربته ويجلد الغمام بالسوط لتتساقط منها الأمطار بنما كان ثوره يزمجر مسببا صوت الرعد.
واشتهرت مدن بلاد الشام القديمة بعبادة (حدد)، وكان له معبد في دمشق (في موقع الجامع الأموي اليوم)، كما تم العثور على معبد مهم له في قلعة حلب، في حين تشير المصادر الأثرية أهميته الكبيرة في أساطير الساحل السوري، لا سيما في ميثولوجيا مدينة أوغاريت.
تقنيات حديثة في الإسعاف
المهندس إياس أبرص مدير مشروع (حدد) وصاحب فكرة الإسعاف الأولي للتراث الثقافي في أوقات الأزمات، العائد قبل عام من منحة تدريبية له في إيطاليا أشرفت عليها منظمة (إيكروم) الدولية المختصة بدراسات وصون الممتلكات الثقافية في روما، آل على نفسه نقل جزء كبيرٍ من الخبرات العلمية من ضمنها أحدث التقنيات في علم إسعاف الحجارة، يقول لـ "سبوتنيك": "يُعنى المشروع بالتدخل لإنقاذ التراث المادي كالأبنية والقصور والقلاع والتراث اللامادي من عادات وتقاليد ومهن حيث تتراوح مجالات الاسعاف بما يخص تدعيم الجدران، بالإضافة إلى سيناريو لنقل قطع أثرية ونموذج توثيقي ثلاثي الأبعاد لبيوت أثرية".
حيال هذا صنع المتدربون تطبيقات وتدريبات عملية متنوعة منها دار القناديل في باب أنطاكية، حيث يؤكد مدير المشروع على وضع نموذج توثيقي للأحجار وتدريبات على تقنيات جديدة في سورية منها HPIM ويضيف:
"تهتم هذه التطبيقات بنمذجة معلومات الأبنية التراثية ومن خلال هذه التقنية تفيد بإيجاد نموذج ثلاثي الأبعاد لحصر كميات الأضرار للترميم والتأهيل والتخطيط الزمني للتدخل، وتحديد الكلف، وكذلك صناعة الخرائط والمعلومات الجغرافية".
كما احتوى الجانب التدريبي زيارة لقلعة حلب للاطلاع على مشروع سور القلعة، ورحلات إلى حماه ومنها قلعة الحصن وأخيراً إلى كاتدرائية السيدة في طرطوس بجولة سياحية وتاريخية معاً.
ويأمل صاحب فكرة ومشروع حدد تحول المشروع إلى مؤسسة تنموية تعني بالإسعاف والتوثيق ونقل التدريبات إلى محافظات سورية متتالية علاوة على المساهمة بأعمال هندسية، وإسعافية تطوعية تقدم خلالها خبراتها بشكل مجاني وتطوعي ويلفت المهندس أبرص النظر:
"التدريبات تنوعت بين صفيّة ومخبرية حاسوبية وتطبيقات علمية لم نترك النظري دون تطبيق، يعمل المتدربون على (16) مشروعاً و(4) مشاريع لمباني أثرية في حلب بالإضافة إلى مشاريع بحثية عن تقنيات الترميم والخرائط والعمل على إحداث حقائب تدريبية لليافعين بمختلف الجمعيات وتعريفهم على أهمية التراث".
شغف التراث ومحبة المدينة
ما يجعل (حدد) المشروع الوليد التقني والتدريبي هو الأول من نوعه اعتماده على خبرات وتقنيات حديثة، مع ذلك الطموح الذي يتملك جميع المتدربين وداعمي المشروع من هيئات حكومية وأهلية.
وإلى جانب مديرية السياحة في حلب ومنظمة الهلال الأحمر العربي السوري شارك مركز الأعمال "بروجكتس" كداعم أساسي بتوفير البيئة الحاضنة للمشروع، وتوفير المنهاج العلمي من قبل منظمة "إيكروم" ومنظمة "بوست كود فاندونيش" السويدية حيث وفرت المناخ العلمي الحديث.
في عضون ذلك أعربت معاون مدير السياحة لمعان حمدون في معرض تقييمها لأكثر التجارب التدريبية الرائدة لأهمية المشروع الحديث على المستوى المحلي تقول لـ "سبوتنيك": "مميزات التدريب أنها اعتمدت على خبرات شابة ومثقفة وأكاديمية، هي تجربة أولى من نوعها، وغطت كل الاحتياجات التي تتطلب عملية إنقاذ التراث والمواقع الأثرية".
من جهته يروي المدير التنفيذي لمركز "بروجتكس" محمد فراس كراكشة لـ"سبوتنيك" عن الحاجة الماسة إلى طريقة غير تقليدية للإسعاف الأولي للتراث ويقول: "هدف الورشة التدريبية دفعتنا لأن نكون البيئة الحاضنة له من منطلق الأهمية بضرورة الإضاءة على التراث السوري، وتدريب شباب قادر على حماية وترميم التراث في أوقات الأزمات".
وبيّن المدير التنفيذي للمركز الحاضن للورشة كراكشة أن مدة التدريب وصلت لـ (60) ساعة تراوحت بين تطبيق عملي وحضور نظري مع زيارات ميدانية لحلب القديمة ورحلة اطلاعيه أثرية وسياحية شملت محافظات سورية منها حماه وحمص وطرطوس يرافقهم مختصون تراثيون لتعميم الفائدة.
من جانبه يأسف أبرص للفهم الخاطئ من عامة الناس للتراث، وكما يعبر في حديثه بأن التراث ليس القلعة أو الحجارة القديمة كما يتبادر لأذهانهم بل العادات والتقاليد التاريخية والاجتماعية والروحانية، حتى المهن والحرف القديمة هي تراث وضمن مجال تدريبنا ويردف: "قد نكون أعطينا تركيزاً أكبر على الجانب الهندسي نحو الحجارة لوجود فريق هندسي متكامل إلا أننا لم نغفل الجانب التراثي بكل ما تحمل هذه الكلمة ويمكن تقديم دورات لاحقة عن التراث اللامادي والمعنوي".
الإسعاف ومرحلة التعافي
"حلب" الواقعة في قلب الشمال دارت في منتصفها وبالقرب من قلعتها أعنف وأشرس المعارك المحتدمة قبل العام 2017 وحين هدأت رحاها أخذت أيادي الترميم تعيد إلى ثنايا حاراتها وأزقتها وحول قلعتها الشهيرة العديد من المشاريع الترميمية لإعادة النبض لمدينة الغار الحلبي.
في هذا السياق شارك فريق مميز العمل على التكامل بين الخبرات الهندسية والإدارية، كما يقول مدير المشروع أبرزهم: "المهندسة رهف جوهر إدارية المشروع وخبيرة فنية ومحمد شيخ عمر منسق للمشروع، وكل من المدربين المهندسين (لولوة خربطلي وأحمد بدر الدين فتال وديمة قباني) وكما حضر ودليل سياحي عبد الحليم قدور".
من جهتها تتحدث المدربة والمختصة بالآثار المهندسة إيلين كيلو عن الدورة الحرفية والتي وصلت إلى مدينة حلب وتفردت بجودتها كمادة علمية لاسيما أن فحواها يتعلق عن التدخل في مرحلة التعافي بعد الأزمات علاوة أن الحاجة ماسة إلى كوادر رديفة بعد هجرة المهندسين المختصين أو انتقالهم إلى أماكن عمل ثانية وأضافت لـ "سبوتنيك":
"بعد الاستنزاف للكوادر، نحن بحاجة لهؤلاء الكوادر الشابة، وبالذات بالمجال التراثي، وإعادة المدينة القديمة مجدداً، بالتأكيد بعد تحرير مدينة حلب القديمة اتخذنا إجراءات إسعافيه منها إغلاق الأماكن الأثرية والتراثية ومواجهة المشاكل الإنشائية، وهنا يأتي العمل على الإسعاف بعد التعافي من الأزمة التي ألمّت بهذه المباني".
المتدربون وهاجس التطوع
عندما وقعَ اسم (حدد) إله السوريين القدماء لإطلاقه على مشروع تقني يهدف لإسعاف التراث الثقافي السوري في أوقات الأزمات، كان الشغف يملأ قلوب أصحاب مبادرة علمية تطوعية اختارت أن تشق طريقها في أكثر المدن تضرراً من سعار الحرب.
من المتدربين محمد أمين نقار مهندس مدني قال: "أعمل في مجال ترميم المنشآت هذه المنحة أفادتنا إلى تدريبات لاستعادة التراث غير المنقول والمنقول واطلعنا خلالها عن كيفية نقله إلى الجهات الخبيرة بشكل وأسلوب علمي ليتاح ترميمه".
في المقابل تحكي المهندسة المدنية دانيا شاهين (متدربة) عن طرق توثيق المباني الأثرية التي اكتسبتها وأقرانها من المهندسين والطرق الجديدة في هذا المجال:
"لدينا مشروع بحثي عن الورشة التدريبية أنا وفريق العمل نسعى لإنجازه لتوثيق ما يخص البناء التاريخي عن طريق أساليب حديثة عبر الحاسوب أو يدوي ونطمح للوصول بمخرجات مهمة ومفيدة".
من جانبها قالت آلاء دوغان مهندسة طبوغرافية: "الدورة عززت لدينا قيمة التراث وربطها باختصاصاتنا وأساليبنا العلمية، بعد أن تشاطرنا وزملاء من باقي الاختصاصات عبر مجموعات العمل خليطاً من المعلومات القيمة كنا فريقاً يكمل بعضه بعضاً".
وأبدى المهندس الطبوغرافي محمد المندو رأيه إلى ما اكتسبه في الشق العملي وما يكتسبه الخريج الجامعي من خبرة طبوغرافية مضافاً إليها خبرة معمارية مفيدة من خلال المسوحات الهندسية وتحويلها إلى ثلاثية الأبعاد والتدريب فرصة لاكتساب المهارات وبالنتيجة توظيفها في مجال الإسعاف الأولي.
