سنوات مرت على مذابح بشعة واضطهاد عرقي تعرضت لها أقلية الروهينغا المسلمة في بورما منذ عام 1997, تنديات بسيطة خجولة وردود فعلٍ لم ترتق يوما إلى حجم المذابح, ولكن, فجأةً وبشكل دراماتيكي بدأت التنديدات والدعوة إلى تدخل دولي لحماية الأقلية المضهدة وبدأت دول إقليمية تسخّر إعلامها لنصرة جيش تحرير الرهوينجا, وفتحت المنابر الإعلامية لشيوخ الفتوى للدعوة إلى الجهاد في أماكن اضطهاد المسلمين, في سيناريو مشابهٍ لبداية الأحداث في الخريف العربي, وتراوحت الكتابات الصحفية بين مؤيد للأقلية المسلمة وداعيةً إلى تدخل أمميّ وإسلاميّ وبين كتابات قاربت الأحداث من منظورات الجغرافيا السياسية والاقتصادية والجيبولتيكية.
وما لفتني من بين هذه الكتابات المقاربة الجيبولتيكية للكاتب والباحث السوري سومر صالح —الجيبولتيكية المنظور- حول الدفع بأحداث بورما المؤسفة إلى واجهة الأحداث الدولية, حيث انطلق الباحث صالح في مقاربته الجيبولتيكية إلى تشابه الدور الجيبولتيكي لإقليم اراكان/ راخين بالنسبة للصين مع شبه جزيرة القرم من حيث الأهمية الجيبولتيكية لروسيا, فجزيرة القرم وميناؤها الاستراتيجي حال دون بقاء القوات البحرية الروسية حبيسة المياه الباردة وفتح لها منفذاً دائماً على المياه الدافئة, وكذا الأمر بالنسبة لأقليم راخين فهو المتنفس الجيبولتيكي للصين على المحيط الهندي وخليج البنغال, لأنّ كلّ مساعي واشنطن هي لجعل قناة ملقا البحرية الطريق الحصري لتجارة الصين الدولية, وبالتالي محاولة الضغط على الصين دائماً في مسارات التجارة الدولية, ولكن في الحالة الروسية كانت القوة الروسية جاهزةً للتعامل الفوري مع الحدث في أوكرانيا واستعادة القرم للحضن الروسي, بينما هذا النمط من السلوك العسكري الروسي غير وارد في الحالة الصينية, وقدم الباحث صالح جملة مقاربات وأنماطاً للسلوك الصيني والآثار الجانبية المحتملة لهذه الأنماط…وفيما يلي مقاربة الباحث سومر صالح لمأزق الصين في فخ ميانمار.
إذا كان بعض منظريّ السّاسة الأمريكيين قد وسموا العقد الأول من القرن الواحد والعشرين بمشروعهم المسمى "القرن الأمريكيّ الجديد" وبعضهم تقلّد مناصب إداريةً وأمنيةً رفيعةً في إدارة بوش الابن ودعموا سياسةً "ريغانيةً" قائمةً على التدخل العسكريّ المباشر لإدارة العالم من أفغانستان إلى العراق وتبنوا "الفوضى/ العماه" استراتيجيةً لهم لتحقيق أهدافهم، فإنّ العقد الثاني من القرن الواحد و العشرين بدأ ينحو اتجاهاً معاكساً في سقوط الأحادية القطبية وبزوغ تعدديةٍ قطبيةٍ نشهد إرهاصاتها اليوم بما يسِم هذا العقد الحاليّ بعقد "الموانئ الدافئة"، هذا و تعتبر الحرب الروسيّة الجورجية (2008) نقطة البدء في هذا التحول واستكمل ذلك في أزمة القرم (2014) حين طلب الرئيس بوتين بموجب المادة (102) من مجلس الاتحاد الروسيّ السماح له باستخدام القوة العسكرية لاستعادة الاستقرار للقرم…
حيث أبدت روسيا خشيةً من إقدام السلطات الجديدة في أوكرانيا — المدعومة أوروبيًّا- على إلغاء معاهدة أسطول البحر الأسود أو المساس ببنودها التي تضمن بقاء الأسطول الحربيّ الروسيّ في ميناء سيفاستبول للعام (2042) مع بقاء ما يقارب 25 ألف جنديّ روسيٍّ في هذا الميناء…أمرٌ يُشكّل ضربةً قويةً لطموحات بوتين الدولية سيما البحرية منها باعتبارها شرطاً لازماً لعودة مكانة روسيا الدوليّة وهو ما رأيناه بوضوحٍ في أزمتيّ جورجيا وسورية حيث لعب الأسطول البحريّ الروسيّ في البحر الأسود أدواراً بالغة الأهمية…ضمنت لروسيا عودةً مظفرةً إلى مسرح الكبار…ولكنّ روسيا غير قادرةٍ بمفردها على اسقاط الأحادية الأميركية بل هيّ بحاجةٍ ماسةٍ إلى القوة الاقتصادية الصينية، فالصين كثاني أكبر اقتصادٍ عالميٍّ عادةً ما صنفت بأنها قوةٌ قادرةٌ على تغيير النظام الدوليّ ولكنّها قانعةٌ بنسقه الراهن، ولكن قناعتها تلك لم تجنبها ويلات الصراع مع الخصم الأميركيّ، ولم يجنبها نهائياً الوقوع في "فخ ثوسيديس" الذي يفترض بأنّ خوف قوةٍ قائمٍة (الولايات المتحدة) من صعود قوةٍ منافسةٍ (الصين) وعدم الرغبة في التعاون بينهما سيؤدي حتماً إلى الوصول إلى فخ الحرب، فمنذ عام 2009 والعلاقة بدت متوترةً مع الولايات المتحدة وعمدت الأخيرة إلى فرض شبه حصارٍ بحريّ عليها عبر نشر أساطيلها في المحيطات الدّولية لعرقلة التجارة الصينة، ومع عام 2013 بدأت الصين بالتحرك نحو القطبية الكاملة سياسياً وعسكرياً وثقافياً واقتصادياً من خلال مبادرة "حزام واحد — طريق واحد" التي أطلقها الرئيس الصيني شي جين بينغ، وتهدف لتطوير وإنشاء طرقٍ تجاريةٍ وممراتٍ اقتصادية تربط أكثر من 60 بلداً، وعلى غرار أهمية ميناء سيفاستبول في القرم لروسيا ظهرت أهمية ميناء أراكان في ميانمار على خليج البنغال بالنسبة إلى استراتيجية الصين الجديدة
هذا الوضعية المأزومة في الإقليم الذي يشك ل بديلا استراتيجيا عن قناة "ملقا البحرية" التي تهيمن عليها القوات العسكرية الأميركية تضع الصين أمام تحديات اقتصادية وأمنية جد ية وتعرقل طموحاتها التجارية الدولية في ظل بزوغ ارهاصات حرب تجاري ة مع واشنطن قد تنقلب حرب عملات دولية، وتنحصر خياراتها في ثلاث أنماط من السلوك الس ياسي والعسكري أحلاها "مر"، النمط الأول هو نمط استخدام القوة العسكرية الصينية المباشرة في مواجهة هذه التنظيمات المتطرفة التي بدأت بالوفود إلى الإقليم بطواطؤ تركي أميركي، وهو أمر صعب ومستبعد نتيجة عاملين: الأول التوتر الحاصل بين الجيشين الصيني وجيش ميانمار على خلفية أحداث (2016) وطلعات سلاح الجو التابع لميانمار فوق الحدود الصينية، والعامل الثاني هو الأثر العكسي للتدخل فقد يكون هذا التدخل هو أقصى طموح تبتغيه واشنطن لأن ه يسمح لها بتحويل الصراع الصين ي مع "الجهاديين الإرهابيين" إلى حرب دينية تستخدم فيها الإيغور المهزومين و العائدين من سورية لتقويض استقرار إقليم تركستان الشرقية(شينجيانغ) ونقل الحرب إلى الداخل الصيني، واستعداء أقاليم تركستان الغربية للصين بما يقو ض المساعي الصينية في استراتيجية حزام وطريق، وذلك في سيناريو مشابه لاستخدام وتوظيف تنظيم القاعدة الارهابي في مواجهة الاتحاد السوفييتي إبان الحرب الأفغانية (1979-1989)؟
شاءت الظروف الدولية أن يلعب الموقع الجيو سياسي المهم لـ(ميانمار) في القارة الصفراء دورا رئيسا في الاستراتيجية الصينية سواء من خلال ممر بري من الصين إلى الخليج العربي والبحر المتوسط، أو من خلال ممر بحري يسمح لواردات الصين أن تأتي بعيدا عن الأساطيل الأميركية، ولكن الظروف التاريخية والسياسية لن تسمح للصين بنمذجة سيناريو القرم الروسي المتشابه في الأهمية الجيبولتيكية مع إقليم أراكان ومينائه الحيوي، وما يعقد الحسابات الصينية أن هذا التحدي الجيبولتيكي والتحدي الاستراتيجي الكوري سيكونان حاسمين في رسم شكل القوة الصينية حاضرا ومستقبلا، فنجاحها في ضبط الوضع في الإقليم سلميا وحل الأزمة الكورية سيؤهلها للعب أدوار إقليمية ودولية حاسمة في الصراعات الدولية ويسقط الانتقادات الدولية في عدم امتلاكها ثقافة القطبية الدولية وأدواتها و عجزها عن إدارة الأزمات الدولية، ولكن فشلها في حل أزمة الروهينغا سيما إن اقترن مع فشل دبلوماسي لأزمة الجزيرة الكورية سيأتي بنتائج عكسية على الصين ليس من الناحية الجيبولتيكية فقط بل سيحول دون بلوغها مرحلة القطب الفاعل دوليا فالاقتصاد هنا لن يكفي، لأن ها ستفقد الثقة الدولية بإمكانياتها الس ياسية فلا أحد يرغب بحصول كوارث نووية جراء قل ة الخبرة الدولية في التعامل مع الأزمات العسكرية، فكيف لفاقد الشيء أن يعطيه انطلاقا من فشلها في حل أزمة تعني أمنها القومي مباشرة.
كاتب المقال: سومر صالح
تحرير وتعليق: نواف إبراهيم
(جميع المواضيع في قسم المدونات تعبر عن رأي كاتبها فقط)