حتى في قوة البرد، نقصد محل عصائر مشمشة في الكرادة داخل — الشارع التجاري الذي كان بالنسبة لنا مثل الشانزلزيه الفرنسي في قلب باريس، نشتري منه أرقى الثياب، وأحدث منتجات ماركات الماكياج والعطور- ولا أنسى الخضار والخبز أسبوعيا..هذا ما استذكرت به فتاة عراقية، أجمل أيامها قبل نحو عام.
وتحدثت الفتاة التي تدعى مها محمد (24 عاما)، عن أوقات المرح التي تقضيها برفقة صديقاتها من جامعة بغداد تحديداً من كلية العلوم للبنات/ قسم علوم الحياة، بعد أن يمضين الصباح في تشريح الحيوانات والصراصير، وصيد الضفادع من المستنقعات.
وتقول، شارع "الكرادة داخل" قبل أن ينفذ به الإرهاب مجزرة مروعة في مايو/ أيار 2016، كان أجمل ما يمكن أن نراه — لاسيما ونحن من محافظات تفتقر لـ هكذا ملامح من التطور العمراني والتجاري، في إحدى المرات كنا نشعر بالضجر في غرفة القسم، ولما سمعنا صوت قطرات المطر على النوافذ — خرجنا بلا مظلات أو قبعات للتمتع بالأمطار لدرجة أنني فتحت فمي لأرتوي منه، "ضاحكةً" وهي عادة اكتسبها أغلبنا في الصغر.
وأخبرتنا مها، أن منطقة الكرادة داخل، هي المكان الأنسب والأفضل لطلبة الأقسام الداخلية، ولا ننسى أننا نشتري من محلات البقالة، الخضار والمستلزمات، والخبز بكمية تكفينا حتى نهاية الأسبوع، وكذلك الحال بالنسبة للثياب والماكياج الذي كنا نفضل شرائه من محل "الشهيرة" مثل اسمه معروف ببيع المنتجات الأصلية من مختلف الماركات، والأقرب لقلبي هي ماركة " Benefit" الأمريكية.
بعد مجزرة الشانزلزيه
غرق شارع "الكرادة داخل"، بدماء وأشلاء أكثر من 300 مدني مزقوا وتفحموا لدرجة لم يتم التعرف عليهم من قبل ذويهم إلا من خلال فحص الحمض النووي، مع الذين تبخرت أجسادهم وتحولت إلى رذاذ من شدة تفجير إرهابي لتنظيم "داعش" نفذه بسيارة مفخخة رجح حينها إنها كانت محملة بكميات كبيرة من الفسفور الأحمر الحارق للبشر، في الثالث من يوليو/ تموز 2016.
ومنذ ذلك التاريخ، انقلبت حياة الشارع والمنطقة بأكملها، إلى بؤس وعزلة عن الوجود، بتحولها إلى مزار ومجالس عزاء وسرادق بكاء ورثاء للضحايا الذين لم يعثر من بينهم حتى اللحظة في مجمعي الألبسة "الليث، وهادي سنتر" اللذان نالا الدمار الأكبر من الهجوم الإرهابي، ولم يخرج منهما أحد حي، بالتزامن مع عيد الفطر وقتها حيث كان الشارع في أوج اكتظاظ الناس وإقبالهم للشراء.
وحتى اللحظة رغم مضي عام وثلاثة أشهر على الهجوم الإرهابي الذي عد الأكثر دموية في تاريخ العراق، منذ الإطاحة بصدام حسين عام 2003، مازالت الطرق المؤدية إلى الداخل من الكرادة، مغلقة تماماً على طريقة السدود.
قال الشاب منتظر الزيني، وهو أحد أصحاب المحلات التجارية التي تضررت بشكل كبير جداً نتيجة غلق المنطقة، في حوار أجريناه معه، اليوم الأربعاء 11 أكتوبر..
"تعرفين بعد التفجيرات، كل الطرق المؤدية إلى شارع الداخل، أغلقت، وكذلك السوق، وانتشرت مواكب العزاء ومجالس الحزن على الضحايا، حيث تجلس الناس للبكاء على ما من فقدوا، لأكثر من شهرين".
وأضاف الشاب، وهو يمتلك محلا لبيع الألبسة النسائية في مركز "العراق مول" التجاري في شارع العطار تحديداً، واسمه "أزياء الزيني"، بعدما أغلقت كل الأفرع المؤدية إلى الداخل، فرضت النقاط الأمنية لاسيما تلك الموجودة من جهة ساحة "كهرمانة"، بشكل تعجيزي — وكأنها واحدة من نقاط أمن المطار.
يتأخر عند هذه النقطة، كل من يريد التوجه إلى شارع داخل الكرادة، لأكثر من نصف ساعة، وبسببها عزف الأغلبية من المواطنين عن المجيء — ما أبقى المنطقة أشبه بالمتوفاة، وحتى من ينظر لصورها ومحلاتها لبرهة كأنه يرى ملامح تشبه الحياة في الساحل الأيسر من الموصل التي حولها "داعش" الإرهابي لأكثر من عامين إلى مسرح من المجازر والركام والدمار.
لكن الحياة في أيسر الموصل مركز نينوى، شمالي بغداد، عادت أكثر من شارع الداخل في الكرادة..
وأكمل لنا الزيني، كاشفا عن الخسائر المالية التي تكبدتها المحلات والعقارات ومالكيها، بسبب الركود في داخل الكرادة — الذي أصبح وكأنه شبه الميت سريرياً..
ويقول:
إيجارات المحلات انخفضت من 1200 دولار شهريا، إلى ما بين (800-500) دولار، وأيضا أسعار السلع والملابس — فقد أصبحنا نبيع بأي ثمن ما بين (15-10) آلاف دينار عراقي ما يقارب أقل من 10 دولارات بالكاد نجمع منها مبلغ إيجار المحل..
وأفاد، سابقا كنا نبيع في اليوم الواحد أكثر من 30 قطعة ملابس، أما حاليا أقل من 10 قطع أغلى واحدة فيها قد تصل أحيانا إلى 20 ألف، تقريبا أقل من 15 دولار أمريكي.
وأرجع الزيني، أسباب عدم عودة الحياة في الكرادة، إلى تأخر إعادة ترميم المركزين التجاريين من بعد التفجيرات، وخوف المواطنين من مشهد الهجوم الإرهابي، حيث مازالت أثاره موجودة حتى اللحظة، وأيضا بسبب إجراءات نقطة ساحة كهرمانة.
وفي ختام حديثه، يطالب الزيني، مثل كل أصحاب المحلات والمهن في المنطقة، من الجهات الأمنية والمعنية في الحكومتين المحلية للعاصمة، والاتحادية، بفتح الطرق، وتقليل إجراءات نقطة "كهرمانة" وجعلها مشابهة لتسهيلات مثيلتها في جهة الأورزدي التي تغيرت في الآونة الأخيرة في تعاملها نحو الأفضل مع الوافدين إلى المنطقة.
تظاهرات
وعلمنا بتظاهرات لأهالي الكرادة، ومالكي المحلات التجارية، تنطلق السبت المقبل 14 أكتوبر، للمطالبة بفتح الطرق وإعادة الحياة إلى ما كانت عليه سابقا، وقبلها كانت لهم وقفات احتجاج وتظاهرات مرات عدة منذ العام الماضي لكنها لم تنل الضوء والاستجابة وكأنها تنادي من كوكب آخر، ومعاناتهم لا تنقل بتغطية ضعيفة من الإعلام، إلى الرأي العام والجهات المقصودة.
فريق تطوير
وكشف نائب رئيس اللجنة الأمنية في مجلس محافظة بغداد، محمد الربيعي، في تصريح خاص لنا، اليوم، قائلا:
"إن فريق العمل الذي شكل في الكرادة متمثلاً باللجنة الأمنية لمجلس محافظة بغداد، ريق مع عمليات العاصمة، لمتابعة موضوع فتح المنطقة، قدم تسجيلاً مصورا للخطة التي نريد أن نطور بها المدينة وفتح منافذ أكثر وتحويل المشروع من صندوقي مغلق إلى غلق محوري، أي نكبر رقعة الغلق، مع حفظ الأمن المدني وليس أمنا عسكريا واستخباراتيا وداخليا وهكذا".
وبين الربيعي، أن عمل الفريق سمي بـ"تطوير الكرادة" لمساندة كلا من عمليات بغداد، والاستخباراتية، أخذا 4 ملفات هي:
"أمني، وسلم مجتمع، والذوق العام، والخدمات العامة وبضمنها توفير الطاقة الكهربائية".
نزع السلاح
وأقام فريق "تطوير الكرادة" حسبما ذكر الربيعي، أربع ورش مع المسؤولين والقيادات، وعلى رأسهم رئيس الوزراء، حيدر العبادي، ورئيس المجلس الإسلامي الأعلى في العراق، عمار الحكيم، ووزير الداخلية، قاسم الأعرجي، ونائب رئيس الجمهورية، نوري المالكي، والنائب الأول لرئيس البرلمان، همام حمودي، وقائد العمليات وأمانة العاصمة، على جعل المنطقة منزوعة السلاح فعلا وليس قولا ً.
ولفت الربيعي، إلى توجه الفريق مع الجهات المذكورة، إلى رفع كافة المقرات غير الرسمية والتي تحمل سلاح وتمارس عمليات العسكرة في المدينة.. قائلا "كلها رفضناها، نريد عودة الكرادة منزوعة السلاح، وعلى ضوء ذلك شكلنا فريق قوامه 200 شخص 70% منهم من أهالي الكرادة، و30% هم من أصحاب المحلات التجارية.
وصارت للفريق حملات مختلفة أولها "رفع المساطب"، وتنظيم "البسطات"، وليس تحريم البارات والملاهي والمحلات التي بقيت على حالها ولم تمنع ولن نفعل ذلك، وأغلقنا غيرها غير المرخصة ومنها التي أغلقت في منطقة "العرصات" التابعة للكرادة، والعمل تكرر في أكثر من منطقة.
خطة
وضمن كلامه، نوه الربيعي، إلى تظاهرة يخرج بها فريق "تطوير الكرادة" السبت المقبلة، للمطالبة والضغط على الجهات المعنية، لرفع النقاط الأمنية نهائيا من المنطقة، وتطبيق الخطة.. التي ننفرد بنشرها في تسجيل مصور حصلنا عليه من الفريق.
وعبرَ الربيعي، "نحن ليس داعمين، بقدر ما نطالب بيد ونحاور بالأخرى، لأن الصلاحيات لا تعطى بشكل دقيق وسريع، مضى على بدء عملنا 90 يوماً، ونريد أن تنفذ المطالب بشكل سريع، وكل ما يجري حاليا هو "عملية المشاركة الجماهيرية مع المسؤول في صنع القرار وهذا هو اسم شعارنا الذي رفعه الفريق".
موافقة
وأكد الربيعي، موافقة الجهات المعنية التي ذكرها في بداية حديثه لنا، على الخطة التي طرحها الفريق، متداركا "لكن قلة الإمكانيات حالت دون تنفيذها، ونحن نطالب بتنفيذها كونها تعطي أمان ومساحة أكثر، وانتعاش المنطقة اقتصاديا ً".
ولخص لنا الربيعي في الختام.. خلال الـ90 يوماً نفذ الفريق فعاليات ونشاطات لإرجاع الحياة إلى شارع الداخل، وصار هناك اختلاف وعودة نسبية أفضل من السابق ما بعد التفجيرات، من خلال مهرجان للتسوق، وبازار العيد، والاحتفال داخل مقهى "بن رضا علوان" بانتصار القوات العراقية بتحرير الموصل في 10 يوليو/ تموز الماضي.
الأمل
قبل أيام قليلة، تجولت في الكرادة داخل، لم نستطع الدخول إليها بالسيارة إلا من خلال منفذ يلتوي من شارع منتزه أبو نواس المطل على نهر دجلة، كانت الأضواء شاحبة، والمنطقة تغفو على صلوات الراهبات وتراتيل الجامع القريب منهن، والموسيقى المنبعثة من محلات الآلات الموسيقية التي مررت أصابعي من فوق أوتار بعض كمنجاتها الخشبية "آلات الكمان".
ويبقى الأمل حاضرا مثلما عادت الحياة إلى المدن التي دمرها "داعش" بالكامل، ستنتعش الكرادة مع ازدياد توافد الشباب والفتيات، إلى محلات الألبسة، ودار "أنانوكي" لتعلم العزف على الآلات الموسيقية، ومقهيي"قهوة وكتاب — دار عدنان"، و"بن رضا علوان" الشهير الذي يوفر الكتب لزبائنه مع ألذ قهوة يمكن أن يحتسيها المتذوق، على حد وصف شاربيها.
تقرير: نازك محمد
