البحث عن بلد آخر للعمل، هذا ما يطمح إليه ويخطط له الدكتور (ح.م)، وهو اخصائي جراحة نسائية وتوليد وصاحب خبرة كبيرة، فمنذ أن حضر إلى النرويج يحس أنه قد دخل في متاهة حول مستقبله المهني كطبيب، فرغم أنه يتحدث الإنجليزية بطلاقة، وقطع شوطاً لا بأس به في تعلم اللغة النرويجية، إلا أن عودته إلى ممارسة مهنته يحتاج إلى وقت طويل، ويجب أن يمر بإجراءات معقدة جداً، والحل كما بات يراه هو أن يبحث عن دولة أخرى يستطيع أن يعمل فيها كطبيب وفقاً لمؤهلاته وخبرته.
طبيب آخر اختصاص أمراض قلبية، ويدعى (م. ع) ولاجئ في السويد، ينتظر منذ أكثر من عام لمَّ شمل عائلته التي تقطعت بها السبل في تركيا، لكنه فقد حماسته مؤخراً، ولم يعد يتابع ملف لم الشمل في شكل شبه يومي كما كان سابقاً، وفي سؤاله عن السبب يقول: "أنا لا أعرف ماذا سيكون بعد لمِّ الشمل، لأنني لست واثقاً من أنني سأستطيع أن أجد عملاً هنا بالسهولة التي كنت أتوقعها قبل المجيء إلى هنا، زملاء لي يحاولون منذ أكثر من عامين أن يعيدوا ترتيب أوضاعهم في بلد اللجوء، القليل منهم تمكنوا من ذلك، بينما الغالبية الساحقة إما فقدوا الأمل في أن تحل أمورهم في المدى المنظور أو أنهم باتوا على وشك أن يفقدوا الأمل…".
ويردف بحسرة: "كنت أظن أن كل الأبواب ستفتح أمامي، بفضل اختصاصي وخبرتي الكبيرة في العمل، إلا أن الأمور على أرض الواقع صعبة جداً لجهة العمل… أنا لا أنكر أن الدولة تؤمن للاجئين مستوى حياة كريم، ما يكفي للسكن والمأكل والمشرب والمصروف الشخصي على الضروريات، غير أنني لم أحضر إلى هنا كي أعيش عالة على المجتمع السويدي، بل أريد أن أعمل وأنتج وأدفع ضريبة كأي مواطن سويدي… أريد أن أعود مرة ثانية وبأسرع وقت ممكن إلى ممارسة عملي كطبيب"
الحال لا تختلف كثيراً بالنسبة للأطباء الذين ذهبوا إلى الدنمارك، حيث عليهم الانتظار لعام أو أكثر لتحديد مقابلة ثانية معهم، كي ينظر في إعطائهم الإقامة، ولا أحد يعرف كم من الوقت يمكن أن تأخذ إجراءات منحهم الإقامة، لتبدأ رحلة أخرى شاقة، لتعلم اللغة على طريق الاندماج، ومن ثم البحث عن عمل، وكأنهم ينطلقون من الصفر مجدداً. الطبيب (س.ا) يلفت إلى أن إجراءات معادلة شهادة الطب في الدنمارك صعبة جداً، إذ تمر بمعاملة بيروقراطية معقدة ومضنية، علماً بأن الكثير من الأطباء الذين يعملون هنا هم من البولونيين ولا يجيدون الإنجليزية كما يجب، بينما غالبية الأطباء الذين لجؤوا هنا يجيدون الإنجليزية، وعدد غير قليل يجيد الحديث بلغة ثالثة غير العربية والإنجليزية، ويبذلون جهدهم لتعلم اللغة الدنمركية، وهي من أصعب اللغات في العالم..".
ونسأله عن المستقبل، فيكتفي بإشارة من يده تعني لا أعرف، قبل أن يستدرك قائلاً: "هناك نقص كبير في عدد الأطباء في الدنمارك، على الأقل يمكن لهم لو أرادوا تسهيل أوضاعنا أن يسمحوا لنا بالعمل في خدمة اللاجئين…".
متاعب الأطباء في عملية الاندماج ليست معاناة حصرية، فالمهندسون والتقنيون والمدرسون يواجهون مشاكل لا تقل عن مشاكل الأطباء بخصوص الدخول إلى سوق العمل، وعبثاً يحاول الكثيرون فتح كوة من خلال برامج تدريبات عملية، لاكتساب خبرة في لغة البلد وفهم طبيعة سوق العمل، إلا أن الترحاب الذي يقابلون فيه من أرباب العمل، كونهم يعملون كمتدربين من غير أجر، ينتهي بعد ثلاثة أو ستة أشهر بالاعتذار منهم عن عدم إمكانية تأمين فرصة عمل لهم.
ويجمل (ن.ج)، وهو أستاذ جامعي، ما سبق بالتأكيد على أن الفئات المثقفة من اللاجئين هي الأكثر معاناة في عملية الاندماج لجهة البحث عن فرص عمل، بينما معاناة من لا يحملون شهادات علمية أقل بكثير، وحتى لو لم يستطيعوا أن يجدوا عملاً حسب مهنتهم بإمكانهم أن يعملوا دون عقود نظامية، أو كما يقال (عمل أسود)، لكن كيف يمكن لأستاذ جامعي أو طبيب أو مهندس أو مدرس أن يعمل دون عقد نظامي.
وهكذا، إن الجنة المنشودة في أوروبا الغربية، كما كان يعتقد غالبية اللاجئين الذين غامروا بأرواحهم للوصول إليها، لا تخلو من متاعب ليست هينة في عملية الاندماج والترسيخ، لاسيما بالنسبة للفئات التي تتمتع بمستوى عال من التحصيل العلمي.