تواجه فنزويلا خطر الإفلاس، وشهد العامين الأخيرين تقلص قاعدة الدعم التي تتمتع بها الحكومة البوليفارية من قبل الفقراء والمهمشين، الذين استفادوا في عهد الرئيس الراحل، هوغو تشافيز، فالكثير من القوى اليسارية والمؤثرة في المجتمع المحلي باتت في صفوف المعارضة للرئيس الحالي نيكولاس مادورو، الذي ورث جملة من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المعقدة.
خسر الحزب الحاكم الانتخابات التشريعية الأخيرة، ويواجه الرئيس مادورو حملة لسحب الثقة منه وإجراء انتخابات رئاسية مبكرة، وهو ما واجهه أيضاً الرئيس الراحل تشافيز، لكنه تحدى المعارضة حينها، واحتشد مئات الآلاف من أنصاره إلى جانبه، وبالفعل فشل المعارضون بإسقاطه من خلال إضراب القطاع النفطي، ودارت شكوك واسعة حول صحة جمع المعارضة لثلاثة ملايين توقيع بغية عزله، في حين تبدو المواجهة أصعب بكثير لخلفه، لجملة من الأسباب طابعها الغالب موضوعي.
ربما يكون من غير المفهوم نشوب أزمة اقتصادية طاحنة واستمرارها لسنوات طويلة في بلد مثل فنزويلاً، يعد من أغنى دول أميركا اللاتينية، واحتياطي النفطي فيها هو الأكبر في العالم، يزيد عن 297 مليار برميل، وربما يتساءل كثيرون لماذا فشلت البرامج الحكومية في تحقيق ما وعدت به من ازدهار وتنفيذ خطط تنمية مستدامة تخرج ملايين الفقراء من دائرة الفقر؟
تدهور الأوضاع لم يمس أوضاع الطبقات الفقيرة فقط، بل يمس أيضاً الطبقة الوسطى، فنسبة البطالة ارتفعت إلى أرقام قياسية، ووصلت نسبة التضخم خلال النصف الأول من العام الجاري ما يقارب 200%، ويتوقع صندوق النقد الدولي أن تصل النسبة نهاية العام، إذا ما بقيت الأوضاع على حالها، إلى 700%، ويرى خبراء اقتصاديون أن قرار الحكومة مؤخراً رفع الحد الأدنى للأجور من 33.636 بوليفار(العملة المحلية لفنزويلا) إلى 65.056، (ما يوازي 105 دولار أميركي)، قد تخرج التضخم عن السيطرة.
وتكاد البلاد تقف بالفعل على حافة مجاعة، ونقص حاد في الأدوية والملابس والسلع الأساسية الأخرى، وتعاني البلاد من نقص كبير في إمدادات الكهرباء، ما اضطر الحكومة إلى تقليص العمل في القطاع العام إلى يومين في الأسبوع فقط، وأدى تدهور الأحوال المعيشية إلى ازدياد معدلات الجريمة، وتنذر الأشهر القادمة بالأعظم، جراء تدهور الأوضاع السياسية ولجوء المعارضة إلى تأجيج الأزمة، ورفضها الحوار مع الحكومة والتعاون معها.
في البحث عن أسباب الأزمة يبرز الصراع الطبقي كعامل رئيسي، فمنذ عام 1994 سعت الحكومة برئاسة الرئيس الراحل، هوغو تشافيز، لإحداث عملية تحول جذري وتغيير عميق في البنية السياسية والاقتصادية والمجتمعية، لتمكين الشعب الفنزويلي من التمتع بثرواته، ووقف عمليات النهب التي تقوم بها الشركات متعددة الجنسية (شركات أميركية)، وإعادة توزيع ملكية الأراضي ليكون العمل فيها متاحاً لكن المواطنين الفنزويليين. وشكلت شركة النفط الفنزويلية أداة لتدخل الاحتكارات النفطية الأميركية بالأوضاع الداخلية لفنزويلا، كون هذه الشركة مارست دور "دولة داخل دولة"، لكن يؤخذ على الحكومة بأنها تأخرت في اتخاذ القرارات المطلوبة، وترتب عليها دفعت أثمان باهظة، ومازالت تدفعها.
وفاقم من الأزمة الاقتصادية الفنزويلية تدهور أسعار النفط، وانخفاض قيمة العملة الفنزويلية أمام الدولار الأميركي، واضمحلال الاحتياطي النقدي من العملة الأجنبية، إلى حد عجز الحكومة عن تأمين واردات السلع الغذائية والأساسية، كما أنه يأخذ على الحكومة خلال السنوات العشرين الماضية لجوءها إلى برامج دعم حكومية للمحرقات كلفتها عشرات مليارات الدولارات، كان يمكن توجيهها للبنية التحية والتنمية المستدامة، وبالإضافة إلى الأسباب السابقة خروج الصراع السياسي بين السلطة والمعارضة عن السيطرة.
لقد فوتت فنزويلا حقبة الطفرة في أسعار النفط، بعدم توجيه عائداتها النفطية للتخلص من سمة الاقتصاد الريعي المعتمد على النفط والتصدير المواد الأولية الأخرى، أكثر من 50% من ورادات الخزينة الحكومية الفنزويلية و96% من العملة الصعبة، ولم تحقق الحكومة الفنزويلية نتائج مؤثرة بتوجهها نحو اتحاد دول أميركا الجنوبية (أوماسور)، وبالطبع لا يمكنها توقع التوصل إلى تفاهمات مرضية مع المصدرين الآخرين الكبار في مجموعة (أوبك) لوقف تدهور أسعار النفط، لأن بعض الدول المصدرة ترفض اتخاذ إجراءات موحدة تحد من إغراق السوق النفطية.
ثلاث حقائق تفيد بأن فنزويلا يجب أن تعتمد على قدراتها الذاتية للخروج من أزمتها الاقتصادية، من بوابة معالجة الأزمة السياسية، فالحلول تستلزم خطط شاملة من منظور وطني، تتشارك كل القوى السياسية والمجتمعية في العمل على تنفيذها ودعمها إلى جانب الحكومة، من خلال حوار بناء وتكامل الجهود والأدوار، وهنا تكمن المعضلة التي المعارضة تتحمل المسؤولية الأولى فيها، ولا يمكن أيضاً إعفاء الحكومة من المسؤولية.
