وقعت تاريخياً حروب ونزاعات كثيرة، وكما نعلم أن جبهات الحروب متعددة ميدانية عسكرية واجتماعية ثقافية ودبلوماسية سياسية والخ، لكن الجبهة الأخطر على أي دولة في أي حرب، والتي تشكل في كثير من الأحيان الأسفين المخفي الذي يستخدم للنيل من هذه الدولة أو تلك لأهداف جيوسياسية أو اقتصادية أو غيرها من الأهداف التي تسعى أي دولة إلى تحقيقها، هي جبهة الاستخبارات والتجسس، التي تعتمد في عملها على الخفاء وراء ستارات مختلفة، تعطيها القدرة على الحصول على معلومات من شأنها أن تكون في بعض الأحيان أخطر من أي سلاح تدمير حربي فيما إذا استخدمتها ضد هذه الدولة لابتزازهاا، أو حتى لتدفيعها ثمناً باهظاً بأقل تكاليف، وقد تشل قدرتها على المواجهة. الحديث عن هذا المسار طويل جداً وشائك ومعقد ويحتاج الى الكثير من الوقت للغوص فيه وفي قصصه وحكاياه.
وجرت محاولات إستقطاب كثيرة من قبل دول ذات مصلحة في سورية كإسرائيل وتركيا وغيرهما من دول المنطقة ودول الغرب. اليوم يدور الحديث عن إحدى هذه القصص التي زعمتها ونشرتها صحيفة "لوموند" الفرنسية حول أن الإستخبارات الفرنسية والإسرائيلية إستطاعت الإيقاع بمهندس سوري يعمل في المجال الكيميائي لدى مركز البحوث العلمية في دمشق ، حتى إستطاع الطرفان معرفة كل تفاصيل معلومات السلاح الكيميائي السوري والشركات التي كانت تورد مواد خاصة بهذه الصناعة دون الإلتزام بالقوانين الدولية التي تحكم التعامل بهذه المواد. ما أدى بالنهاية إلى نزع السلاح الكيماوي السوري بالقانون الدولي ، والذي كان يعتبر من أحد أهم عوامل الردع والتوازن الإستراتيجي مع إسرائيل بالذات العدو التقليدي الأول للدولة السورية.
وهنا لابد من الإشارة إلى عدة نقاط تحتاج إلى توضيح في هذا الإطار وأهمها:
قضية التوقيت في نشر هذه المعلومات والهدف منها؟
هل هذه حقيقة واقعة أم أنها فيلم هيوليودي إسرائيلي فرنسي لتلميع صورة استخبارات البلدين التي اهتزت في السنوات الأخيرة على الساحة المحلية والدولية ليصنعوا من هذا الخبر انتصارا ينسب إليهما؟
سورية بالأصل هي من قدمت الكشف عن سلاحها الكيميائي واستطاعت بالتعاون مع روسيا التخلص من ذريعة أساسية كانت الولايات المتحدة قد أرادتها حاملاً للتدخل العسكري هذه الحقيقة وليست قوة الاستخبارات الفرنسية أو الإسرائيلية، إذا هناك أهداف أخرى فما هي؟
حرب التجسس القائمة ضد سورية وفي سورية منذ بداية الأزمة ما مدى خطورتها ولما يتم التكتم عليها من قبل أجهزة الاستخبارات السورية؟
هذا الموضوع نناقشه اليوم مع كل من الدكتورة في العلوم السياسية فوذية فريحات من باريس
ومع أستاذ العلاقات الدولية في جامعة دمشق الباحث السياسي والدبلوماسي السوري السابق، الدكتور بسام أبو عبد الله
تقول الدكتورة فوذية فريحات بهذا الصدد: هذه الرواية في صحيفة "لوموند" الصحيفة الأكثر عراقة في فرنسا ، تأتي في وقت تتعرض فيه هذه الصحيفة إلى شيء من الخفوت في ظل الفضائح أو بعض المزاعم التي نشرتها بعض الصحف الأخرى المنافسة وهي "لوكونير اوشينيه" و "جوزال دوديمارش" ، والمتعلقة بالحملة الإنتخابية بالتحديد لمرشح اليمين التقليدي فرانسوا فيو والذ طالب صراحة بإستعادة العلاقات م دمشق، وأخذ على سياسية الرئيس الحالي أولاند موقفه المعادي لسورية ، قائلاً إن الحوار هو أفضل سبيل للوصول إلى التسوية من جهة ، ومقراً بأن الرئيس السوري بشار الأسد يعمد الى مكافحة الإرهاب بحق وحقيقة ، هذا من جهة الناحية الشكلية لإنعاش رصيد هذه الصحيفة الذي تغير كثيراً عما كان عليه في السابق.
وختمت الدكتورة فريحات قائلة: المحاضر القضائية التي تم الإعتماد عليها أو التوصل إليها في محاكمة رئيس المخابرات الداخلية الفرنسية أكد انه لم يتم التطرق لا من قريب ولا من بعيد إلى هذه الشركة التي أسسها ضابط الموساد الذي قدم نفسه على أنه رجل أعمال إيطالي، ولم يتم التطرق اليها في المحاضر القضائية الى البرنامج الكيميائي السوري.
من جانبه الدكتور بسام أبو عبد الله يقول:
وأردف الدكتور أبو عبد الله يقول: كل الروايات التي يجري الحديث عنها هي لإبقاء هذا الملف ضاغطاً على الحكومة السورية، والقول أن لديهم معلومات لم تكشفها الحكومة السورية فيما يتعلق بهذا الشأن هو لعرض عضلاتهم، ولا نخفي أننا أمام حرب استخبارات وما جرى من حرب عدوانية فاشية على سورية هي حرب استخبارات بامتياز، جزء منها كان الإعلام، والجزء الآخر شبكات استخبارية، ونجحت أجهزة استخبارية أجنبية وعلى رأسها الموساد في اختراق جزء مما يسمى أدوات داخل سورية، وهذا الأمر يبدو واضحاً سواء بالارتباط بين ما يجري على الأرض في سورية وبين ما يجري في المحيط الإقليمي، وكانت هناك غرف عمليات تقودها استخبارات أمريكية في الأردن بعمان، وفي أنطاكيا في تركيا، وهذه الغرف هي التي قادت ترتيب المجموعات المسلحة وتسليحها، واستهداف الداخل السوري، واغتيال الشخصيات العلمية بقوائم محددة، في هذه الحرب الاستخبارية في عامي 2011 و2012 وفي مرحلة ما استطاعت الدولة السورية أن تتغلب على الشبكات التي حاولت ختراق سورية.
وهنا نتحدث عن أجهزة استخبارات قوية وكبيرة وضخمة، بالمقابل استطاعت سورية أن تخترق شبكات كبيرة على صعيد المجموعات المسلحة، وعلى صعيد مواجهة هذا المشروع، هناك محاولات إظهار هذا الموضوع وإخافتنا، نحن نقر بأن هناك شبكات استخبارية، وهناك للأسف جزء من السوريين رهن نفسه إلى أجهزة استخبارات، سواء للموساد الإسرائيلي أو غيره، وهذا أمر محزن للغاية أن يصل شخص ما تحت يافطة المعارضة إلى أن يكون عميلا للموساد أو عميلا للأتراك أو غيرهما.
وختم الدكتور أبو عبد الله يقول: لابد من التعاون بين أجهزة الاستخبارات وهناك تعاون بين روسيا وسورية وإيران والمقاومة اللبنانية لمواجهة الاستخبارات الأجنبية، لأنها لا تستهدف فقط سورية، وإنما تستهدف الدور الروسي أيضاً، وإيران والمقاومة، وبالتالي مواجهة الإرهاب ومكافحته تحتاج إلى عمل مشترك ومواجهة مشتركة، وتحتاج المواجهة حتى إلى تعاون مع الدول الأوروبية ودون تعاون لا يمكن الوصول إلى نتائج، حرب الاستخبارات حرب عقول، وفي أي بلد أصيب بمناطق ضعف أو رخوة، يتعرض لمثل هذه الأحداث ومما لا شك فيه أن الاستخبارات تلعب دوراً في استهداف سورية وغيرها من الدول.
إذا حرب الاستخبارات قائمة وستبقى قائمة، ولكن تختلف قيادتها وطرقها وأساليبها وأهدافها من دولة لأخرى وبين هذه الدولة وتلك، ولا أحد أذكى من أحد في هذه اللعب الخفية، كما قال الدكتور بسام أبو عبد الله. والاستخبارات الغربية وخاصة الفرنسية حاولت كثيراً أن تحقق تعاوناً أمنياً مع سورية لحماية نفسها من الإرهاب، لكن الرئيس بشار الأسد رفض ذلك قبل أن يتم إعادة العلاقات الدبلوماسية، وفتح السفارات وفق ماجاء على لسان الدكتورة في العلوم السياسية فوذية فريحات. وبطبيعة الحال تبقى هذه الأحداث سيدة الأعمال الخفية لحروب ظاهرة بين الدول في عالم بات يفقد أمنه واستقراره رويداً رويداً في ظل غياب التعاون والتنسيق بين أجهزة استخبارات دول العالم، مايجعل فاتورة عدم الاستقرار باهظة عند الجميع، وخاصة عند من يلعب بالنار في دولة أخرى دونما أن يحسب خط الرجعة ومنعكسات سياساته على دولته نفسها في وقت لاحق.
إعداد وتقديم: نواف إبراهيم