القرية التي حل بها كل من الموريسكيين (المسلمون المطرودون من الأندلس، في القرن السابع عشر) والألمان والفرنسيين والأمريكيين، تحتفظ بآثار كل هؤلاء حتى يومنا هذا، في كتب التاريخ، وفي الحكايات الشعبية، وحتى على مستوى العمارة والآثار.
في شهادتها مع "سبوتنيك"، تقول السيدة حليمة الفرشيسي، إن الجنود الأمريكيين كانوا الأسوأ على الإطلاق، حيث كانوا يفتكون القرويين بأحذيتهم عند مهاجمة المنازل، ما كان يضطر الأهالي إلى الهروب للجبل، وهو ما يتبعه دخول هؤلاء الجنود للمنازل بحثا عن الفتيات ونساء القرية، يقولون: "أين فطيمة".
معاملة الألمان
تتابع "العمة حليمة الفرشيشي"، أنها تتذكر بعض الوقائع، خاصة قدوم الألمان الذين كانوا يدقون على الأبواب، أو يدخلون إن وجدوا الباب مفتوحا ليشتروا البيض بمقابل مادي، كما كانوا يهدون القرويين علب السجائر، ويتحدثون معهم بمودة، ثم يقولون لهم إن العرب والألمان متشابهون، وكانوا يتميزون بالوسامة والطول الفارع والشعر الأشقر والعيون الزرق، وكانوا كلما حلقت طائرات الأمريكان في طلعات رباعية يختفون داخل المنازل، وتحفظ "حليمة" بعض المقاطع الشعبية التي كانت تغنى منها.
وتتابع أن المستعمرين الفرنسيين كانوا يعذبون المقاومين كلما نزلوا من الجبل، وقبضوا عليهم فيضعون في حلقهم خرطوم الماء حتى تنفخ بطونهم، ثم يدوسون عليها بأقدامهم، وهو ما دفعهم للتحسر على فترات الألمان.
الموريسكيون
يقول الباحث في تاريخ الموريسكيين في تونس، منذر شريط، إن الموريسكيين الأندلسيين أقاموا في القرن السابع عشر قرب قرية" البطان"، التي اختصت بالفلاحة والصناعة التقليدية، منذ نشأتها، وهو اسم من أصل أسباني، كما جاء في كتاب الباحثة الجامعية، ذات الأصول الأندلسية من جهة الوالدة، عائشة إبراهيم، ضمن كتابها "الموريسكيون جسر الحضارات.. خصوصية أسبانية تونسية" الصادر، في 2014.
وامتازت البطان منذ ذلك الحين بخصوبة التربة ووفرة المياه وعذوبتها، وكان السلطان المرادي يوسف داي "1610-1637"، أنشأ قصرا في البطان فيه من الفن وحسن الذوق الكثير. يضيف في تصريحاته إلى "سبوتنيك"، أن السد الذي أقيم في البطان، ساهم في تشغيل معمل حياكة الشاشية الذي لا يبعد عنه الكثير، وتعود المهنة إلى المورسكيين، كما وظف لري حقول الزياتين التي تحيط به، وأنه ما زال شامخا رغم مرور مئات السنوات، يتحكم في توزيع المياه في واد مجردة، كما يوجد مركز لتربية الخيول الأصيلة.
من ناحيتها، قالت القاصة هيام فرشيشي، من سكان القرية في تصريحاتها إلى "سبوتنيك"، إن الحديث عن البطان يعني العودة إلى ذاكرة طفولية ثرية بالخبرات الحسية والخيال.
وأضافت قائلة: "بصريا تملكتني مشاهد المكان منذ مدخل القرية، حيث سيج الطريق بالأشجار السامقة من الجهتين، يعترضنا البرج الشامخ وهو قصر قديم يربى فيه الخيل البربري، وتقام فيه عروض الفروسية وعروض فنية، ندخل للقرية من الممر المحاذي للبرج، حيث تعترضنا ضيعة مسيجة بالأشواك، تحاذيها دور صغيرة بسيطة".
تتابع أن أحد الموروثات في القرية هو "خبز الغناي"، الذي يعد على الحطب في "طاجين فخاري" بأشكاله المستطيلة وألوانه وروائحه الزكية، كما أن الاقتراب من البئر كان ممنوعا كونه مسكن الأشباح، وأن دار جدتها كانت تؤم أغلب القرويات، فهي تعالج العقم والرضع، فيما كانت دار عمتها بها انتاج الضيعة، وتتجمع النسوة لغربلة القمح والشعير والتوابل، فيما تتجمع الشابات للتطريز والنسج والحياكة، ويتجمع الأطفال لنسج اللوحات الصغيرة بالصوف.
عادات وتقاليد
تقول زينب الكعبي، إحدى فتيات قرية "البطان" التي تتقن الحياكة التقليدية والتطريز وإعداد الأكلات التقليدية: "إن أهل البطان يحافظون على عادات غذائية تقليدية تعد من الدقيق حتى اليوم، مثل كسكسي العولة، والمحمص من العجين المدور الصغير يطبخ كحساء في ليالي الشتاء بالخضر والقديد، والحلالم والنواصر، وخبز الغناي، وخبز الطابونة، وخبز فطير، وشربة الشعير.
طقوس الختان
وتضيف أن طقوس حفلات الختان في القرية تسبقها عزف المزيكا، كما يركب الطفل الذي سيختن على حصان، ويجوبون به القرية، حيث ترافقه الفرقة النحاسية، فيما غابت عن القرية عروض الفروسية، في السنوات الأخيرة، والتي كانت تواكب زردة الولي الصالح "سيدي غنية"، الذي بني ضريحه في مقبرة البطان.
تقرير/ محمد حميدة