سلّط صندوق النقد الدولي في تقرير صادر عنه الضوء على مشكلة التقدم في السن مع ارتفاع معدل الأعمار في البلدان الأوروبية الغربية، وركز واضعو التقرير على الوضع في ألمانيا، كنموذج يعكس حجم المشكلة ومخاطرها والخطوات المطلوبة لعلاجها، لضمان استقرار المجتمعات، والحفاظ على معدلات نمو كافية، كي تتسنى حماية نظام الضمان الاجتماعي والإبقاء على فعاليته، ومنظومة وفعالية المالية العامة في صورة إجمالية، على المدى الطويل.
الصندوق نبَّه في تقريره إلى ضرورة القيام بإصلاحات عاجلة في ألمانيا، وهذا ينطبق أيضاً على غالبية الدول الأوروبية الغربية، محذراً من أن ألمانيا ستواجه انحساراً حاداً في الأيدي العالمة عام 2020، وستزداد الضغوط على صناديق الضمان الاجتماعي، لتلبية الزيادة الكبيرة في المبالغ المطلوبة للإنفاق على أعداد الكهول المتزايدة في المجتمع، وارتفاع كلفة المعاشات التقاعدية، وأوصى الصندوق بمجموعة إجراءات عاجلة للتصدي لهذه المشكلة، من بينها زيادة الاستثمارات في تدريب المهاجرين الجدد، وإدخالهم في العجلة الاقتصادية الإنتاجية.
ملاحظة أخرى وردت في تقرير صندوق النقد الدولي حول المهاجرين الجدد تستحق التوقف عندها، حيث حذَر واضعو التقرير من أن تراجع موجات الهجرة إلى ألمانيا واستقرار معدلاتها عند حدود منخفضة، والأمر ينطبق على العديد من الدول الأوروبية الأخرى، سيؤدي إلى عوز في عدد الأيدي العاملة المطلوبة، ونظرة الصندوق إلى قضية المهاجرين الجدد من هذه الزاوية تبرز جانباً ايجابيا لطالما جرى تجاهله، أو حتى تقديم صورة مخالفه له تماماً، تقدم اللاجئين ضمن رؤية تخلق مخاوف من أنهم يشكلون خطراً داهماً على المجتمعات الأوروبية، يهدد بتقويض البنية الاقتصادية وتغيير التركيبة السكانية، ناهيك عن الادعاء بأن استقبال إعداد كبيرة من المهاجرين من شأنه "تغيير وجه أوروبا التاريخي والحضاري وطابعها المسيحي"، بإغراقها بمهاجرين من أوروبا الشرقية ومن بلدان إسلامية.
في ثمانينات القرن الماضي صدرت تحذيرات من أن البلدان الأوروبية الغربية معنية بوضع برامج تشجع على الزيادة السكانية، وأن البديل عن ذلك، في حال عدم وضع مثل هكذا برامج والحرص على نجاحها، فتح الباب أمام مهاجرين جدد لتعديل ميزان المجتمعات الأوروبية المائل نحو الشيخوخة، وتوفير ما يلزم من أيد عاملة، من خلال إدخال تطويرات على قوانين الهجرة وبرامج إدماج المهاجرين الجدد.
جدير بالذكر؛ يصل متوسط الأعمار في البلدان الأوروبية الغربية 76 للرجال و84 للنساء، كنتيجة لتحسن الشروط الاقتصادية والاجتماعية والرعاية الصحية ومستويات التعليم العالي للأمهات، وكان ينظر إلى ذلك كواحدة من ثمرات الرفاهية، قبل أن يصبح موضوع الشيخوخة من القضايا التي تشغل بال المجتمعات الأوروبية الغربية، بالإضافة إلى مجتمعات الدول الصناعية المتقدمة الأخرى. ومن المؤشرات الرقمية المقلقة أيضاً في المجتمعات الأوروبية والصناعية المتقدمة خطر تفوق أعداد من هم فوق الستين عاماً على من هم تحت العشرين عاماً، باستثناء فرنسا.
تقارير غربية، سبقت تقرير صندوق النقد الدولي، تعاملت أيضاً بإنصاف مع قضية المهاجرين الجدد، ومن تلك التقارير تقرير نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" في السادس من أيار/مايو 2015، أكدت فيه أن من المتوقع أن ينخفض عدد السكان في سن العمل بدول الاتحاد الأوروبي من 336 مليون شخص في العام 2010 إلى 300 مليون شخص في العام 2030، بينما سيرتفع عدد الأشخاص الذين تتجاوز أعمارهم 65 عامًا من 87 مليون شخص إلى 123 مليون شخص خلال الفترة نفسها.
وحثت الصحيفة أوروبا على التحلي بالشجاعة وفتح أبوابها أمام المهاجرين، لأنه نظراً لديون أوروبا الهائلة واستثماراتها الضعيفة وتراجع عدد سكانها أشياء تثير مخاوف حدوث ركود اقتصادي على المدى الطويل، يمكن أن تكون زيادة عدد المهاجرين هي العلاج الذي تحتاجه القارة التي تشيخ خلال العقود القادمة، بالإضافة إلى أن الوافدين الجدد الذين يتسمون بالنشاط والتنوع يمكن أن يساعدوا في استكشاف أفكار وأعمال جديدة من شأنها أن ترفع مستوى معيشة الأوروبيين، ففي بريطانيا على سبيل المثال، يبلغ عدد المهاجرين من رجال الأعمال ما يقرب من ضعف عددهم من السكان المحليين.
ما أوردته الصحيفة في تقريرها وما أورده صندوق النقد الدولي، وكذلك العشرات من التقارير التي صبت في الاتجاه ذاته، يؤكد أن المهاجرين الجدد يشكلون إكسير شباب للمجتمعات الأوروبية، فهم يعطونها "قبلة الحياة"، وهذا يفوق المشاكل التي يمكن أن تتسبب بها الهجرة، وتكاليف إعادة إدماجهم، سواء من الناحية المادية أو ما سيترتب على التعددية الثقافية والدينية.
(المقالة تعبر عن رأي كاتبها)