ست ساعات من نزول الجماهير التركية إلى الشوارع كانت كفيلة بإجهاض محاولة الانقلاب العسكري، التي أظهرت الوقائع اللاحقة بأنها كانت أوسع بكثير مما كان يعتقد للوهلة الأولى، وحمل الفشل الدراماتيكي للانقلاب العديد من الرسائل المهمة حول واقع تركيا اليوم ومستقبلها.
الرسالة الثانية، وهي لا تقل أهمية عن الرسالة الأولى، وحدة كل القوى السياسية التركية، في السلطة والمعارضة، وكل قوى المجتمع المحلي في رفض الانقلاب، وخروجها للتصدي له على رأس حراك شعبي جارف منذ اللحظات الأولى للإعلان عن المحاولة الانقلابية، وهذا يعبر عن نضج النخب الحزبية التركية، التي قررت وضع خلافاتها جانباً في معركة الوقوف ضد الانقلاب، ويعتبر هذا أيضاً مؤشراً على المستوى المتقدم من التمسك بالديمقراطية.
وقوف غالبية القيادات العسكرية ضد المحاولة الانقلابية كانت الرسالة الثالثة، على عكس الانقلابات السابقة التي عملت فيها قيادة الجيش كفريق موحد ومنضبط وراء هدف الاستيلاء على السلطة، وتفكيك النظام السياسي وإعادة تركيبه بما يخدم مصلحة العسكر وهيمنتهم على مقاليد الحكم، وهو ما يؤكد أن العقدين الماضيين شهدا تغيرات كبيرة في عقيدة الجيش التركي وفي طريقة تفكير قياداته، وهذا يعبر أيضاً عن نضج في فهم التغيرات العميقة التي حدثت داخل المجتمع التركي، وداخل البنية الحزبية والمؤسسية في تركيا.
أربع رسائل تؤمن للنظام السياسي التركي القائم، وبالطبع على رأسه الحكومة المنتخبة، مظلة أمان لإبعاد المخاطر واستعادة الاستقرار ومعالجة ذيول المحاولة الانقلابية، ومنع قيام أي محاولات انقلابية مستقبلاً، لكن أي خطأ في قراءة الوجه الآخر لتلك الرسائل ستكون له آثار سلبية لا تقل خطورة عن المحاولة الانقلابية، بل يمكن أن تكون كارثية على مستقبل تركيا، إذا أصر الرئيس رجب طيب أردوغان وحكومة "العدالة والتنمية" على التعامل مع تلك الرسائل كتفويض من قبل الشعب التركي، والمجتمع الدولي، للقيام بإجراءات خارج إطار المعالجات الدستورية والقانونية.
فالشعب التركي خرج دفاعاً عن الديمقراطية التي أراد الإنقلابيون الإطاحة بها، وأي إجراءات يقوم بها الرئيس أو الحكومة يجب أن تظل تحت سقف الحفاظ على الديمقراطية واحترام الدستور والقوانين، وضمان محاكمات عادلة وشفافة لكل المتهمين بالمشاركة في المحاولة الانقلابية أو التواطؤ معها. وثمة محذور جدي بأن تنساق الإجراءات المتخذة نحو عملية تصفية حسابات مع الخصوم السياسيين، من مؤشراتها الأعداد الكبيرة من المعتقلين والمقالين والمفصولين من وظائفهم.
واصطفاف كل الأطياف الحزبية ومنظمات المجتمع المحلي في مواجهة الانقلاب عكس فرصة ذهبية للنظام السياسي التركي، لم تتحقق في يوم من الأيام سابقاً، ويجب على الرئيس والحكومة العمل على توظيفها من أجل حماية المكاسب الديمقراطية وتعميقها، كرسالة عرفان للدور المبدئي والمشرف الذي اضطلعت به كل القوى الحزبية والمجتمعية، ويخطئ من يظن أن الشعب التركي ممثلاً بتعبيراته السياسية والمجتمعية سيقبل بإجراءات تقود إلى استبداد بالسلطة.
كما لا يجب أن يغيب عن بال الرئيس رجب طيب أردوغان، والحكومة التركية وقيادة حزب "العدالة والتنمية"، أن المواقف الدولية الشاجبة للانقلاب، والداعمة للحكومة المنتخبة وللديمقراطية في تركيا، تلقي على كاهل الرئيس والحكومة وقيادة الحزب الحاكم مسؤولية الحرص على المسار الديمقراطي، وسيراقب المجتمع الدولي عن كثب الإجراءات المتخذة في أعقاب فشل المحاولة الانقلابية، فمن الضروري لتركيا وللعالم أن لا تخرج تلك الإجراءات عن السياق الدستوري والقانوني، وإلا فإن تركيا ستدخل في نفق مجهول.
(المقالة تعبر عن رأي كاتبها)